صحافة

هل تشجع السويداء على تجرّع سمّ ثورة جديدة؟

السبت, 26 أغسطس - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

عمر قدور


تميّزت مظاهرة يوم الجمعة، في ساحة الكرامة-السويداء، برفع البعض لافتات تندد بالإخوان المسلمين، وتنعتهم رفقة ائتلاف المعارضة بأنهم أخوة بالرضاعة مع بشار الأسد. تلك اللافتات لم تمنع الحشود في الساحة من توجيه التحية إلى مدن ومناطق سوريا، بما فيها تلك الخارجة عن سيطرة الأسد. اللافتات التي تندّد بالإخوان والائتلاف قد تكون رسالة متعددة الوجهات والأهداف، وفي مقدمها لجم شهية الائتلاف إلى إلحاق ثورة السويداء بالثورة التي يمثّلها، خاصة مع الدعوات الصادرة عن "معارضي وثوار الأمس" كي تعمّ المظاهرات سوريا، ومع اعتقاد البعض أن ما يحدث في السويداء هو استمرار لثورة 2011، أو موجة ثانية منها على الأقل.

ومن المرجّح أن تكون الرسالة داخلية أيضاً، وموجّهة إلى مشاركين آخرين في المظاهرة لهم ارتباط عاطفي بثورة 2011، وربما بتأثيرهم هناك الكثير من الهتافات التي تذكّر بالثورة الفائتة. لا نأتي بجديد إذا ذكّرنا بأن السويداء "شأن معظم مدن وبلدات سوريا" شهدت في السنوات الماضية انقساماً بين الموالين ومؤيّدي الثورة، ومن ملامح "المصالحة" بين الجهتين عدم رفع العلم الرسمي للسلطة وعدم رفع علم الاستقلال الذي بات رمزاً للثورة، والاصرار على العلم الذي يرمز إلى الدروز بوصفه جامعاً لهم، بخلاف سوء أو خبث الفهم اللذين يُراد ترويجهما لدى باقي السوريين في ما يخصّ رفع هذا العلم.

لعل كلمة "المصالحة" هي المدخل لما يبدو مستغرَباً بين رفع علم فئوي والإصرار على مطالب وطنية، ومن المفيد استرجاع انقسامات في المواقف "حادة أحياناً" ضمن السويداء في السنوات الماضية ومقارنتها بشبه إجماع اليوم، من أجل فهم جيد للمثال الذي تقدّمه. ولعلنا لا نخاطر بالقول أن الاكتفاء بـ"نشوة" الثورة التي تقدّمها السويداء، "من دون التفكير في تلك المصالحة"، سيبقى في الإطار العاطفي العابر، ولن يساهم في تعميم نموذجها. فهل تشجّع السويداء على تجرّع سمّ ثورة جديدة تجمع أعداء الأمس؟

إذا نحّينا جانباً "ومؤقتاً" مصادر قوة الأسد الخارجية، فإن من أهم مصادر قوته الداخلية أن المصالحة بين السوريين عسيرة جداً، وعدد المتورطين في القتل منذ عام 2011 يجعلها شبه مستحيلة. وهكذا فإن الأسد الذي يقدّم يومياً مبررات للثورة ينام مطمئناً إلى أن ما يجمعهم بأسباب الثورة يفرّقهم ما أن تصبح الثورة على الأبواب!

لدينا مثلاً ما لا يقل عن ثلث السوريين ممن تعرّضوا للإبادة والاعتقال والتعفيش والتشبيح والتهجير خارج سوريا، ولهؤلاء الملايين مطلب محقّ هو العدالة، إذا استثنينا منهم من يتوق إلى القصاص كما يفهمه أو حتى إلى الثأر. ولدينا في المقابل ملايين يرون في الأوّلين متسببين بثورتهم في المقتلة السورية، وفي ما ألمّ بمعيشتهم من تدهور، إذا استثنينا منهم فئة أكثر "اعتدالاً" ترمي بالمسؤولية على الأسد والثورة معاً.

وإذا ذهبنا مباشرة إلى الأقصى والأقسى، لدينا مئات ألوف الموالين المتورطين في المأساة السورية، قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وتعفيشاً وتشبيحاً، أي لدينا الملايين باحتساب أسَرهم. وهؤلاء لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء ثورة جديدة تتوعدهم بالعدالة، حتى مع القناعة بأن الأمر سيقتصر على العدالة، ولن يكون هناك انفلات أمني وعمليات ثأر. 

في الواقع، إن شعار "محاسبة المتورطين من كافة الجهات"، في حال سقط الأسد، يبدو شعاراً مخيفاً جداً، لا مطمئناً ومتوازناً كما يودّ الذين يرفعونه. يكفي أن نتخيل السيناريو المثالي، وبه يسقط الأسد وتُقام المحاكمات للمتورطين في الانتهاكات، ليظهر هذا السناريو مرعباً بقدر ما يحتاج سجوناً وسجّانين، وليكتسب عداء "المتورطين من كافة الجهات". بعبارة قاسية، ليس محتماً أن يتلازم السعي إلى إسقاط الأسد مع السعي إلى العدالة. وبعبارة أقسى، إن لم يكن الآن ففي وقت لاحق من المرجح بشدة أن يكون السوري أمام المفاضلة بينهما، فإما إسقاط الأسد أو النوم على حلم العدالة بالمعنى المُشار إليه، أي ما لم يقتصر على محاسبة كبار المتورطين.

إذا كان رهان اليوم هو على ثورة جوع عارمة وعامة، فإن رهان عام 2011 كان أقوى واقعياً، لأن الانقسام الدموي لم يكن قد حدث بعد، ولأن موجة "الربيع العربي" كانت آنذاك مصدر أمل للسوريين. انضمام مدن وبلدات أخرى إلى انتفاضة السويداء، خاصة مدن وبلدات الساحل، يتطلب مصالحة قد تكون أصعب من التي شهدتها السويداء، ولا ندري ما إذا كانت ستصمد فيها حتى النهاية. هذه المصالحة تقتضي توفر قناعة عامة بأن شبيحة الأمس تعلموا الدرس، ولن يستخدموا العنف ضد أهاليهم، جنباً إلى جنب مع بدء الاقتناع بأن المصالحة ممكنة بين السوريين حتى إذا لم تكن خياراً محبَّباً عاطفياً.

يُصادف في هذه الأيام مرور ستّ سنوات على تباهي الأسد بقوله عن الحرب: "خسرنا خيرة شبابنا لكننا كسبنا مجتمعاً متجانساً". ولم يكن حينها ينطق بلسانه فحسب، بل أيضاً بلسان عتاة شبيحته، ولسان حشده الفكري الصريح والمستتر. إن كان من إنجاز عاجل لانتفاضة السويداء الحالية، وتضامن درعا ومدن وبلدات أخرى معها، فهو تفنيد ذلك الارتياح إلى أن المجتمع صار متجانساً بعد تهجير ما يزيد عن عشرة ملايين سوري خارج سوريا وداخلها.

السويداء نفسها ليست بالمجتمع المتجانس، وفي الأصل لا يوجد أي مجتمع متجانس إلا في العقول التي لا تتورع عن إبادة أي مختلف عنها. الخروج من الأسدية وحشدها الفكري يتطلب أيضاً قبول المختلف، بدءاً من المختلف القريب، وعدم الوقوع في مطب الذين يستخدمون الصبغة الدرزية للتخويف من تصدّع التجانس المفروض بقوة المخابرات والشبيحة، فهؤلاء وأمثالهم سيستخدمون أية خصوصية لأية فئة كخطر على بلد ليس سوى "سوريا الأسد". 

النجاح الآخر الذي حققته الانتفاضة يظهر أثره باستعجال الحشد الفكري نكأ جراح السنوات الماضية، للقول بالاستحالة المطلقة لأي اجتماع بين جانبي الانقسام السوري، فضلاً عن ترهيب أهالي السويداء بمصير سابقيهم. ما يخيف هؤلاء أن السويداء تقدّم فعلاً نموذجاً يتجاوز الماضي القريب، والخوف هو من انتشار العدوى إلى الساحل الذي ينبغي لجمه بحذاقة تفوق استعراضاً بالسيارات لبعض الشبيحة في طرطوس. خوف هؤلاء الأكبر هو من الاضطرار إلى تجرّع سمّ انتفاضة في الساحل، وهي للأمانة "إذا حدثت" ستمتحن قدرة ملايين من الجهة المقابلة على تجرّع سمّ المصالحة معها؛ السمّ الذي كأنّ من طبيعته البقاء مؤجلاً لكنه حتمي أيضاً!


المصدر: المدن

الوسوم :