د. فيصل القاسم
لو أحصينا التصريحات التي أدلى بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ سنوات حتى الآن حول ضرورة إنشاء نظام دولي جديد، لربما تجاوزت المائة تصريح وربما أكثر، فهو لا يكل ولا يمل من المطالبة بتغيير النظام الدولي الذي ظهر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية تسعينيات القرن الماضي. ويعتقد بوتين أن تفكك النظام السوفياتي الذي نافس أمريكا على قيادة العالم لحوالي نصف قرن من الزمان كان أكبر كارثة تحل بالأمة الروسية، لهذا لا بد من إحياء النفوذ الروسي ليعود منافساً قوياً لأمريكا وحلفائها الغربيين. لا شك أن من حق بوتين وغيره أن ينتقد النظام الدولي الحالي، فهو نظام طاغوتي وديكتاتوري بكل المقاييس، ويجب أن يتغير البارحة قبل اليوم، ولا بد أن تتغير معه أيضاً تركيبة مجلس الأمن الدولي الذي يحكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بديكتاتورية مقيتة. هل يعقل أن خمس دول كبرى تتحكم وتقرر مصير البشرية جمعاء؟ أليست هذه قمة الطغيان كما وصفها المفكر البريطاني الراحل توني بن؟
بعبارة أخرى، لا غبار أبداً على مطالبة بوتين بنظام دولي متعدد الأقطاب، لا بل إن من حق كل الأصوات المطالبة بتغيير هيكلية الأمم المتحدة وإضافة أعضاء جدد إلى مجلس الأمن ليكون أكثر تمثيلاً للبشرية وانعكاساً للتحولات الدولية، من حقها آن تستمر في المطالبة بتغيير النظام. لا أحد يختلف معها، لكن هل يريد بوتين فعلاً نظاماً دولياً متوازناً وعادلاً لتحقيق الأمن والاستقرار والعدالة لشعوب المعمورة؟ إن من يسمع تصريحات الرئيس الروسي المتكررة يأخذ الانطباع أن قلبه يتقطع على عذابات الشعوب المسحوقة، ولم يعد يطيق الطغيان الغربي والأمريكي تحديداً فوق رقاب أكثر من سبعة مليارات إنسان في عموم العالم. لكن هل يريد بوتين العدالة حقاً، أم إنه فقط يريد حصة أكبر من الكعكة الدولية كي يعيد بعض أمجاد الاتحاد السوفياتي البائد؟ من المعروف تاريخياً أن كل القوى التي وجدت لديها فائض قوة، حاولت دائماً تصديره إلى الخارج استعماراً واحتلالاً وغزواً وهيمنة وسيطرة على البلدان الضعيفة. وهذه حقيقة تنسحب على كل القوى التي سيطرت على الآخرين عبر التاريخ، بمن فيها المسلمون أنفسهم، الذين فقط غيروا تسمية الاستعمار إلى «غزوات»؟
لا ننسى أن كل القوى الاستعمارية تاريخياً رفعت شعارات «براقة» لتبرير غزواتها، فالمستعمر الغربي مثلاً رفع شعار «عبء الرجل الأبيض» واعتبر بموجبه كل احتلالاته ونهبه لثروات الشعوب الأخرى واجباً إنسانياً لتحضير الشعوب المتخلفة. ولا ننسى أن نابليون دخل مصر وهو يحمل نسخة من القرآن الكريم ليضحك بها على المصريين، لكن أكاذيبه انكشفت سريعاً عندما داست حوافر خيوله أرض الأزهر الشريف عند أول مقاومة شعبية للغزاة الفرنسيين.
هل يختلف الغزو الروسي عن الغزو الأوروبي؟ إن من ينظر إلى الغزوات والاحتلالات والوحشية الروسية منذ سنوات في أكثر من مكان في العالم سيجد بسهولة أن شهاب الدين أسوأ من أخيه، كي لا نستخدم العبارة الأصلية للمثل الرائج. بعبارة أخرى، هل يختلف الدب الروسي عن الوحوش الاستعمارية الغربية، أم إنه مثلها، إن لم يكن أسوأ في الهمجية والنهب والسلب وسحق شعوب العالم. قد يقدم النظام الروسي البوتيني ألف سبب وسبب لتدمير الشيشان وتسويتها بالأرض وضمهاً إلى الاتحاد الروسي بالحديد والنار. وقد يعتبر احتلال جزيرة القرم حقاً شرعياً، وغزو جورجيا من قبل ضرورة استراتيجية روسية، لكن كيف يختلف هذا الأسلوب الاستعماري الحقير عن الأساليب الغربية القذرة المعروفة؟ كل القوى الاستعمارية عبر التاريخ غلفت غزواتها بمبررات جميلة، كما أسلفنا، بينما في الواقع كانت احتلالاً صارخاً وعدواناً آثماً على البلدان والشعوب الأخرى. هل يريد بوتين أن يقول لنا إن غزو أوكرانيا وتدميرها وتهجير الملايين من شعبها مبرر شرعي لإنشاء نظام دولي جديد، أم إنها غزوة استعمارية وحشية مثلها مثل كل الحروب الاستعمارية التي قرأناها في كتب التاريخ منذ قرون وقرون؟ كيف يتحدث بوتين عن نظام دولي أكثر عدلاً وتوازناً وهو يسحق ملايين البشر في أوكرانيا وسوريا؟ على من يضحك هذا الطاغية المجرم؟ من يريد أن يحررنا من الهيمنة الغربية لا يفعل بالشعوب أكثر مما فعل الكاوبوي الأمريكي أو المستعمر الأوروبي؟ أليست كل حروب بوتين وغزاوته منذ أن بدأ يحاول استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي الساقط هي حروب استعمارية همجية؟ هل هو يواجه الغرب لصناعة نظام دولي جديد يخدم البشرية كلها، أم يريد أن يقتطع من حصة الغرب في الهيمنة والتسلط ليسمّن امبراطوريته الاستعمارية الروسية الصاعدة؟
ماذا تستفيد القارة الأفريقية المبتلية بالاستعمار الأوروبي منذ قرون عندما تدخلها عصابات المرتزقة الروسية وتبدأ بالتحريض على القوى الأوروبية وتنفيذ الانقلابات لصالح الكرملين؟ هل هذا تحرير للشعوب من النير الاستعماري الغربي، أم هو استعمار جديد بصبغة روسية؟ هل يريدنا بوتين أن نصدق أنه ذهب إلى النيجر لتحرير الشعب هناك من الاستعمار الفرنسي، أم ليسحب البساط من تحت أرجل فرنسا كي يحل محلها في النهب والسلب والإجرام؟ لا ندافع هنا مطلقاً عن الاستعمار الغربي لأفريقيا أو غيرها، لكن ماذا تستفيد الشعوب المسحوقة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من التغلغل الروسي هنا وهناك سوى استبدال مستعمر بآخر؟
قلها بالفم الملآن يا بوتين: إنك لا تريد نظاماً متعدد الأقطاب، بل نظاماً متعدد الوحوش والطغاة.
المصدر: القدس العربي