عمر قدور
ظُهْر الأربعاء نشرت جريدة سعودية تغطية للمقتطفات التي كانت قد بثّتها قناة سكاي نيوز العربية من لقاء سيُذاع مساءً مع بشار الأسد، الجريدة أبرزت من المقتطفات قوله أنه لن يجتمع مع أردوغان بشروط الأخير، لأن هدفه هو "شرعنة وجود الاحتلال التركي"، مشيراً إلى أن "الإرهاب في سوريا صناعة تركية". بعد ساعات أذيعت المقابلة كاملة، فلم تحظَ بتغطية من الجريدة ذاتها، لا مباشرةً ولا في الساعات التالية، مع أن الجريدة لم تكن غائبة عن الحدث السوري، فنشرت يوم الخميس متابعتين للشأن السوري عن زيادة أسعار الدواء، وعن تدهور الوضع المعيشي عموماً وإحجام الحليفين الروسي والإيراني عن دعم الأسد.
في الخلفية، كانت الأخبار المتداولة منذ أسابيع تفيد بفشل التطبيع العربي مع الأسد، والذي قادت الرياض مرحلته الأخيرة وصولاً إلى إعادته إلى الجامعة العربية. وثمة أخبار متداولة عن أن الأسد خيَّب آمال المطبِّعين معه في ملفات محددة، أولها عدم قيامه بأي إجراء لمنع تدفق الكبتاغون إلى تلك الدول، وثانيها عدم إفراجه عن معتقلين سياسيين في بادرة يمكن البناء عليها من أجل الملف الثالث وهو سماحه بعودة بعض اللاجئين بلا خوف من الاعتقال. في أجوبته أثناء المقابلة تنصّل بشار من مسؤوليته عن موضوع تجارة الكبتاغون، ورماها على الوضع الأمني و"الإرهاب"، وادّعى أن عدم عودة اللاجئين مرتبط بعدم إعادة الإعمار، والمسؤولية تقع إذاً على السياسات الدولية التي تعيق إعادة الإعمار، وعلى الدول التي لا تساعد في ذلك متجاهلةً عقوبات قيصر كما يفعل هو.
الأهم أنه، في الحديث عن العلاقات العربية-العربية، لم تبدر عنه ولو لفتة ودية بسيطة تجاه الذين أعادوه إلى الجامعة، وإلى الرياض تحديداً التي استضافته، وأخذت على عاتقها مشروع التطبيع معه بعد المبادرة الأردنية. قال بشار أن العلاقات العربية-العربية شكلية، وأن عودة "سوريا" تعتمد على طبيعة هذه العلاقات. وفي هذا الكلام استهتار بالعرب لا يقلّ عن استهتاره بهم أيام القطيعة الأخيرة، أو عندما وصفَ قادتهم بأشباه وأنصاف الرجال إثر حرب تموز 2006. لو أنه فقط لم يقل ما قاله، لو تحدث بعمومية ودبلوماسية وأثنى على بعض الجهود من دون تسمية أصحابها، خاصةً أنه لم يقصّر في الثناء على الحليفين الروسي والإيراني. إلا أنه اختار قول ما يمكن فهمه كإهانة لجهود التطبيع العربي، الإهانة التي تحتمل بسهولة التأويل الشخصي بما أن ذلك كله متصل بقيادات عربية وضعت ثقلها على المحك. بل لا يُستبعد في السياق ذاته أن يكون قد تعمّد التلميح إلى تدخل الرياض في الصراع السوري، عندما رمى مسؤولية المخدرات على الدول التي ساهمت في "خلق الفوضى في سوريا"
غداة بثّ المقابلة سجلت الليرة السورية هبوطاً ملحوظاً جديداً إزاء العملات الرئيسية، ومع أن هبوط الليرة مرتبط أصلاً بالوضع الاقتصادي الكلي إلا أن تأثير أقوال الأسد لا يمكن إغفاله، بحكم موقعه ومسؤولياته. أيضاً يصحّ في هذا الجانب القول أنه لو فقط لم يتحدث، لو التفّ على الاستحقاق الاقتصادي بالعموميات التي تحمل شيئاً من التفاؤل تاركاً للمتلقّي تخمين تهافتها، لو أنه على الأقل تحدّث كمسؤول لا يتنصّل من واجباته الحالية والمقبلة بدعوى "الحرب والإرهاب". لكنه كان واضحاً في التخلي عن واجباته بحكم الموقع الذي يحتله، وحديثه عن تجاوز عقوبات قيصر يزيد من منسوب اليأس إذ يربط تحسن الأوضاع المعيشية بإعادة الإعمار التي ليس هناك ما يبشّر بها في الأفق القريب.
وللحلقة الصلبة من مؤيديه حصة معنوية معتبرة، يصحّ فيها القول أيضاً لو أنه فقط لا يتحدث. الفئة المعنيّة هي التي ذكر أنها دفعت بالمزيد من أبنائها للقتال، بعد مقتل أخوة لهم. وكان يمكن في عام 2012 مثلاً رؤية خيام العزاء التي يقيمها هؤلاء للقتلى من أبنائهم، وعلى هذه الخيام لافتات تنص على الوفاء "للغالي ابن الغالي"، والمقصود بها بالضبط أن الدفاع عن بشار هو في المقام الأول وفاء لأبيه صاحب المكانة العالية في نفوس هؤلاء. في جوابه عمّا إذا كان يعمل على توريث ابنه كما ورث الحكم من أبيه، قال بشار: "لم يكن للرئيس حافظ الأسد أي دور في أن أكون رئيساً.. أنا أتيت عبر الحزب بعد وفاته". والأمر هنا لا يتعلق فقط بإنكار موضوع التوريث، فالإجابة التي تنكر فضل أبيه في توريثه لم تُستأنف بإعطائه أي فضل آخر يرضي أولئك الذين قاتلوا من أجله دفاعاً عن إرث أبيه ليس إلا.
لو أنه فقط لا يتحدث بالأرقام، ويدّعي الدقّة وهو يتحدث عن مئة ألف ونيّف من السوريين الذين تظاهروا مطالبين برحيله. الأمر ليس في سهولة استرجاع تسجيلات المظاهرات العارمة التي غصت بها شوارع وساحات مدن وبلدات مثل درعا وحمص وحماة ودير الزور وبانياس... ليست المسألة في المئة ألف أو في الـ"نيّف"، هي في حديثه عن عشرات ملايين السوريين المؤيدين له مقابل هؤلاء! هي في حاكم يفضَّل ألا يُظهر جهله عدد محكوميه الذي لا يتجاوز الآن 15 مليوناً، بينما كان في عام 2011 حوالى 23 مليوناً، وهو رقم أدنى من الإشارة إليه بعشرات الملايين. ولكي لا يبدو الأمر تصيّداً لزلة، فهو قد كرر لمرتين الحديث عن عشرات ملايين السوريين، مرة بالمقارنة مع عدد المتظاهرين المزعوم ومرة ثانية أثناء حديثه المعتاد عن الصمود أمام المؤامرات.
في الواقع لسنا بحاجة إلى تصيّد زلة من هنا أو هناك مع كل إطلالة، فنحن أمام حالة فريدة إذ نحظى مع كل خطاب أو مقابلة بما نظن أنها زلات لسان. بل بدا في معظم الحالات كأن ظهور الأسد وتحدثه يفسدان المساعي من أجل مساعدته، ومن أجل إعادة تأهيله، وكأنّ صمته أفضل إذ يفسح مجالاً للتكهنات حول تغيّر ما في نظرته إلى الأمور. كأنّه يطلّ بين وقت وآخر فقط ليؤكّد على أنه لم يخطئ يوماً وعلى أنه مستعد للمضيّ فيما هو عليه، وليكذِّب ما يشيعه المطبِّعون معه من أوهام.
فقط وفق المنطق المتعارف عليه يخسر الأسد، ويحرج حلفاءه وأصدقاءه، بهذه الأحاديث التي يعوزها التواضع والدبلوماسية. لكن، وفق المنطق المتعارف عليه أيضاً، ينبغي لمن هناك حجم غير مسبوق من الأدلة على ارتكابه جرائم حرب ألا يكون له مستقبل سياسي، إلا أن التواطؤ الدولي والإقليمي يطيح المنطق بلا حياء. فلماذا يتوجب عليه أن يظهر على غير هذا النحو؟ لماذا يكابد مشقّة التغير وهو بغنى عنه؟
المصدر: المدن