عبدالناصر العايد
لا يمكننا أن نعرف الآن كيف ستنتهي مغامرة يفغيني بريغوجين وتمرده على "الدولة" الروسيّة. لكن، حتى لو نجح بوتين ووزارة الدفاع في تحييده، فإن ارتدادات ما قام به ستستمر طويلاً، وسيستغرق إصلاح ما دمّره، والفساد الداخلي الذي كشف عنه، الكثير من الوقت، وفي كل الأحوال فإن الاتحاد الروسي الذي ينخر الفساد العميق جميع مؤسساته، يُنظر إليه اليوم على أنه "رجل العصر" المريض، الذي يحيق به الخصوم من كل جانب على أمل تفكيكه والهيمنة على أجزائه.
بعيداً جداً من موسكو، يبدو السوريون الأكثر ترقباً لما يحدث هناك، سواء في ضفة النظام أو المعارضة. فالروس هم اللاعب الحاسم في المشهد، منذ أكثر من عشر سنوات، لكن القلق أيضاً كبير في معسكر حلفاء موسكو على الأرض السورية، أي تركيا وإيران، وهنا سنستعرض التأثيرات المحتملة للاضطراب العنيف في موسكو، بغض النظر عن النتائج الدقيقة التي سيسفر عنها.
على صعيد النظام، سيخلق انحسار الغطاء الروسي، وانشغال الكرملين بجراحه، وضعاً شبيهاً بلحظة سقوط الاتحاد السوفياتي بالنسبة لنظام الأسد الأب، وهي المرحلة التي لجأ فيها مباشرة إلى تحسين علاقاته بالولايات المتحدة والدول الغربية، وذلك عبر بوابة المفاوضات الماراثونية مع إسرائيل، والمشاركة في حرب الخليج ضد العراق التي قرّبته من الدول العربية الغنية. وهو الامر الذي ما زال متاحاً ومطروحاً، فالاعتراف بإسرائيل يكاد يكون ورقة نظام الأسد الوحيدة، والدول العربية ذاتها تعرض الأمر عليه بصيغة جديّة، لكنه يعيش صراعاً وتناقضاً مع إيران التي ما زالت تمانع وترفض الانسحاب من سوريا، وهو شرط بديهي لأي عملية تطبيع محتملة.
الفوارق بين مرحلتي الأسد الأب والإبن، في هذا الملف، لا يمكن تجاهلها. فرأس النظام الحالي لا يمتلك هامش المناورة للدخول في مفاوضات طويلة. الجميع مستعجلون لفرض التطبيع في الإقليم، ولا وقت يمكن تبديده في تفاصيل لا طائل منها. كما أن القوات الإيرانية على الأرض السورية، ولا يمكن غض النظر عنها، وستزداد قوة مع انحسار التأثير الروسي. والأهم، أن الولايات المتحدة تهيمن على نحو ثلث البلاد ويدين لها بالولاء جيش محلي جرار.
ثمة نقطة لصالح نظام الأسد في ما يحدث، إذا اتجهت الأمور نحو الحسم لصالح بوتين. فعلاوة على استمرار تغطية انتهاكاته دولياً، ولو اقتصر الأمر على الفيتو في مجلس الأمن، فإن لبريغوجين وشركته الأمنية ديوناً كبيرة على النظام جراء مشاركتها في قمع الثورة السورية، وقواته ما زالت تهيمن على حقول نفط وغاز في سوريا بموجب عقود مبرمة مع حكومة النظام. كما يملك امتيازات مستقبلية وفق اتفاقيات أخرى، لمدة لا تقل عن 25 سنة، يتوقف تنفيذها على استقرار الأوضاع في سوريا. وفيما لو انهار جيش "فاغنر"، فإن النظام سيتحرر من عبئه وضغوطه التي ظهر أحدها إلى العلن عندما نشرت استطلاعات ومقالات في صحف يملكها بريغوجين وصفت بشار الأسد بـ"ذيل الكلب".
أما إيران، فمهما كانت الحال، فإنها ستفقد جزئياً أو كلياً الدعم الميداني الذي كانت تقدمه القوات الجوية الروسية للحرس الثوري في الميدان. وهو ما بدأ بالفعل، إذ انسحب جزء من الوحدات الروسية من شرق سوريا، ما دفع الحرس الثوري لاستقدام مليشيات عراقية لسد الفجوة، وقد شوهدت العشرات منها في شوارع دير الزور، ويبدو ذلك مكسباً وتمدداً جديداً للقوة الإيرانية. لكن كيف ستعوض طهران الدعم والغطاء الذي كانت تقدمه موسكو للعمليات الإيرانية على المستوى الاستراتيجي فيما لو عجز بوتين عن العمل في الساحة الدولية أو انهار نظامه؟ يبدو أن الصين ستكون خيار إيران الوحيد، وليس مضموناً أن تتدخل بكين في ملف بهذا التعقيد والصعوبة، لكن كل شيء وارد.
أما بالنسبة لتركيا، فإنها في وضع ممتاز سورياً، إذ يمكن لحكومة اردوغان أن توسع دائرة نفوذها وأن ترث الكثير من المواقع التي كانت تشغلها روسيا في ذلك الصراع. وقد يكون إتمام عملية التصالح معها خياراً اضطرارياً لنظام الأسد الفاقد لدعم أهم حلفائه، وبشروط أكثر ملاءمة لأنقرة.
أما المعارضات السورية، سواء المرتبطة بواشنطن مثل "قسد"، أو تركيا مثل "الائتلاف" و"هيئة تحرير الشام"، فإن تشتتها وعدم وجود استراتيجية مستقلة لديها سيجعلها أقل المستفيدين من التحولات الجارية ما لم يكن لدى واشنطن توجه لإنهاء الملف السوري بلمسة أخيرة من طرفها.
لا شك أننا أمام لحظة مفصلية في التاريخ المعاصر. فالأزمة الوجودية التي تعصف بالقوة النووية الثانية في العالم، لا يمكن أن تمر بهدوء، وقد تتحول إلى حدث يشبه سقوط الإمبراطورية العثمانية أو الاتحاد السوفياتي. وحتى لو سيطر بوتين على الصراع، ستكون أمامه مهمة إصلاح الدولة الروسية التي ينخرها الفساد في العمق، كما أظهرت الأزمة الراهنة. وهذه مهمة ستستغرق ما تبقى له من وقت، وستبعده من التأثير العالمي بشكل كامل، بعدما حجّمته الحرب الأوكرانية وحشرته في خانة القوى الإقليمية الكبيرة، كما يريد الغرب أو كما يشتهي. وحصة سوريا من هذه التطورات، كبيرة، ولمصلحة السوريين المعارضين في النهاية، مهما كان نوعها أو حجمها.
المصدر: المدن