سمير صالحة
يقول الرئيس الأميركي جو بايدن، معقبا على خطوة الانسحابات من أفغانستان، إن بلاده أنهت أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة بنجاح كبير. لكن غالبية التحليلات والتقديرات الغربية تقول إن أميركا تغادر لصالح حركة طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتحاول إلهاء الجميع بورقة مطار كابول وطريقة تشغيله، لإبعاد الأنظارعن الفشل بطعم الهزيمة والأزمة الحقيقية التي تسببت بها في وسط آسيا. بدأت أوروبا حليف أميركا الأول تناقش حجم الكارثة والدروس الواجب استخلاصها للخروج من الورطة بأقل الخسائر، حتى ولو كان الثمن الحوار المباشر مع "طالبان" أو الاعتراف بها أو التنسيق مع روسيا والصين هناك. لكن أوروبا تعرف أنها، من دون دعم جسر العبور التركي الفاعل والمؤثر في الملف، لن تنجح في حماية نفسها من ارتدادات الفاجعة، وأن المسألة أبعد من الدعوة إلى بناء جيش أوروبي مستقل عن حلف شمال الأطلسي، أو التلويح ببعض المليارات لقطع الطريق على قوافل لجوء أفغانية، تنتظر الفرصة السانحة لاختراق حدود القارة الأوروبية. فقدت واشنطن مصداقيتها في كابول، لكن ارتدادات ما جرى ستصدح في مكان آخر. وقد تعرض الصين تكرار ما فعلته مع باكستان والهند من تقديم شيك على بياض لحركة طالبان.
كان لقرار سحب القوات التركية من كابول أكثر من ارتداد على السياسة التركية نفسها. لم تنجح أنقرة في أخذ ما تريده من "طالبان" أو من الولايات المتحدة، بعد أكثر من عرض واقتراح ناقشته مع الطرفين. لا تريد قيادات حزب العدالة والتنمية اليوم أن تتحمّل أعباء المغامرة بقبول أي عرض محلي أو إقليمي، والدخول في تفاهمات جديدة مع "طالبان" من دون رسم خريطة طريق واضحة، تلتزم بها الحركة، وتساهم في تبريد الأجواء وتهدئة حالة الفوضى الإقليمية، ومعرفة إلى أين ستسير الأمور. لا تريد تركيا أن تجد نفسها وسط مخاطر انفجار أمني أكبر يتجاوز كابول، ويشعل جبهات دول الجوار الأفغاني، تكون هي بين المتسببين فيه. لذلك هي تنفخ لبن "طالبان" بعدما اختبرت الحليب الأميركي في سورية والعراق وأفغانستان.
تتزايد الأصوات الداعية إلى دفع "طالبان" نحو براغماتية جديدة، وإلزامها بقبول المعايير السياسية والقانونية الدولية، بدلا من لعب ورقة عزلها والدخول في مواجهاتٍ معها. وتركيا قد تدعم الفكرة، كي لا تفرّط بالفرص والأوراق القادرة على تحريكها محليا وإقليميا لحماية مصالحها في آسيا. لكنها من دون معرفة حقيقة أهداف مشروع "طالبان" في الداخل والخارج، وفهم ما تقوله وتريده ومدى استعدادها للالتزام بتنفيذ ما ستتعهد به، لن تحسم موقفها بشأن مسألة إدارة شؤون مطار كابول، وما يمكن أن تقدّمه من خدمات فنية وتقنية لتشغيله.
ما زال العنوان العريض لتقدّم الأمور في أفغانستان هو ضبابية المشهد وانعدام الرؤية وتضارب السيناريوهات السياسية والأمنية، وسط مساومات معقدة ومتشابكة، تشارك قطر وتركيا وباكستان في إدارتها نيابة عن المجتمع الدولي. العقدة التي تناقش وراء الأبواب هي سلوك "طالبان" وتصرفاتها وقراراتها في المرحلة الانتقالية. هل ستكون هناك انتخابات؟ وهل ستشرك "طالبان" بقية القوى السياسية والحزبية في إدارة شؤون البلاد؟ وكيف سيكون شكل الحل المؤقت للتعامل دوليا مع "طالبان"، وهي تسيطر على أفغانستان بقوة السلاح، وتتحمل مسؤولية إسقاط حكومة شرعية معترف بها؟
تنتظر أنقرة من حركة طالبان أن تقبل اقتراح تشكيل حكومة وحدة وطنية، تبقي القوى السياسية الفاعلة أمام طاولة القرار بانتظار الاحتكام إلى الصناديق، وتريد من "طالبان" تقديم الضمانات الاجتماعية والسياسية والقانونية الكافية لتسهيل العبور نحو مرحلة جديدة في البلاد. وهي لا تريد ان تتحمّل مسؤولية فتح الطريق أمام "طالبان"، وأن يواجهها بعضهم مجدّدا بمسؤولية ترويج الإسلام السياسي، على الطريقة الطالبانية هذه المرّة، وهي لم تخرج بعد من مشكلة تحمل مسؤولية اختيار ورفع شعارات ثورات الربيع العربي.
وسبب القلق التركي أيضا احتمال وجود لعبة أميركية لإشعال فتيل الانفجار ولتوريط الجميع في آسيا بعدما شعرت واشنطن أن لا خبز لها بعد الآن في أفغانستان. التخوف التركي هو من احتمال حدوث تفاهماتٍ أميركيةٍ مع "طالبان" لإنشاء إمارة إسلامية توفر الحماية لجماعات وحركات متشدّدة مجوقلة، تلعب ورقتها ضد القوى الصاعدة في منطقة دول الجوار الأفغاني، وتهدف من خلالها إلى قطع الطريق على تحالفاتٍ محتملةٍ، تنهي النفوذ الأميركي في وسط آسيا بالكامل. وقد أنهت واشنطن عملية إجلاء قواتها ودبلوماسييها من أفغانستان، تاركة البلاد بيد حركة طالبان. ويتزامن توقيت هذا الحراك مع حراكٍ آخر يواكبه، وهو وضع اللمسات الأخيرة على إحياء انطلاق العمليات الأميركية في كابول قبل عقدين ضد القاعدة و"طالبان" التي تبنّت التنظيم ودافعت عنه.
"جرجرت" أميركا معها إلى أفغانستان الحلفاء والشركاء للانتقام من الإرهابيين في سبتمبر/ أيلول عام 2001، وها هي تغادر عشية سبتمبر عام 2021، من دون إنجاز المهمة، مخيبة آمال كثيرين. تحيي أوروبا حلم الجيش الأوروبي، بعدما خذلتها أميركا في أفغانستان، فلماذا تتمسّك أنقرة بإعطاء بايدن ما يريده في قلب آسيا؟ تذكّر أنقرة الحلفاء الأوروبيين بحاجتهم لها بعد الفشل الأميركي هناك، وضرورة دعمها في ما تقول، لكنها تحاول أيضا بحث الملفات مع لاعبين إقليميين آخرين مؤثرين في المشهد، مثل روسيا والصين وباكستان وإيران ودول عربية.
تركيا حلقة مهمة في التحالفات الغربية، وارتدادات ما يجري على مصالحها في آسيا تطاول ما بنته في العقدين الأخيرين من شبكة علاقات استراتيجية هناك، لن تضحّي بها. تريد حتما أن تعود إلى أفغانستان أقوى مما كانت عليه قبل سحب جنودها من هناك، و"طالبان" قد توفر لها هذه الفرصة، لكن المحادثات تطول، وترتيب الهدايا وتعليبها لن يكونا سهلين.
لا يمكن لتركيا أن تغامر بالظهور كمن يقود حافلة بناء تحالف جديد مع "طالبان" في أفغانستان، ويوفر لها الدعم والحماية في ساحةٍ من الرمال المتحرّكة، قبل أن تتأكّد من نيات الحركة ومشروعها السياسي في بناء الدولة الجديدة. الطرح التركي، كما يبدو، هو سلة واحدة تناقش مع "طالبان"، وتجمع وضوح رؤية المرحلة الانتقالية وتركيبة الحكومة المرتقبة واستعداد الحركة للانفتاح الحقيقي على المجتمع الدولي، قبل نقاش أي اعتراف بها.
تحدّث بعضهم في أميركا عن سيناريو إخراج تركيا من تكتل شمال الأطلسي، لأنها خدعت شركاء الحلف بعقد صفقة صواريخ إس 400 مع روسيا، وهي تتمسّك بتفعيلها واستخدامها عند اللزوم، والآن يطالب حلفاء أميركا بتحمّلها ثمن ما فعلته في أفغانستان، وهي تنسحب تاركة أطنانا من السلاح النوعي الحديث لـ"طالبان"؟ ليس جديدا على واشنطن ما فعلته. كرّرت ذلك في أكثر من مكان، في شمال سورية عندما نقلت آلاف الأطنان من السلاح إلى مجموعات قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بذريعة محاربة "داعش"، فغادر "داعش"، لكن السلاح هو ما بقي على الحدود التركية.
المصدر: موقع "العربي الجديد"