سميرة المسالمة
اتسم الموقف الأميركي من الثورة السوريّة غالباً بعدم الوضوح، والافتقاد إلى الحسم، وترك الصراع الجاري في سورية للقوى الأخرى، روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية، إما تعبيراً عن اللامبالاة، لأن سورية لم تكن يوماً في دائرة النفوذ الأميركي المباشر، أو بغرض توريط تلك الأطراف الدولية والإقليمية في هذا البلد، ما أطال أمد الصراع، وزاده تعقيداً، الأمر الذي دفع السوريون، وما زالوا، ثمنه باهظاً.
الراجح أن تلك الاستراتيجية خدمت إسرائيل التي استثمرت الأوضاع الحاصلة في العراق وفي سورية، وكذلك صعود النفوذ الإيرانيّ في المنطقة، بحيث أضحت الدولة الأكثر استقراراً وأماناً في الشرق الأوسط، وأيضاً باعتبارها، من وجهة نظر أطرافٍ عديدة، رسمية وشعبية، ليست هي الخطر في المشرق العربي، وإنما إيران في الدرجة الأولى.
على أية حال، تمثلت أيضاً هذه الاستراتيجية التي كان البيت الأبيض قد اعتمدها في عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، بالحفاظ على ديمومة الصراع في واقعٍ لا غالب فيه ولا مغلوب، لا من جهة المعارضة ولا من جهة النظام، وبقيت معتمدةً في عهد دونالد ترامب. والظاهر أنها لن تكون معتمدة، على الأرجح، بكامل استراتيجيتها، في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، لأنها استنفدت بعد تحقيق أغراضها، في استنزاف الأطراف الأخرى، إلا أن التغير الحاصل في السياسة الأميركية يقتصر، حتى الآن، على الرغبة بالعودة إلى الاتفاق النووي عبر مباحثات فيينا المتعثرة، وعلى تصعيد اللهجة ضد إيران، وعدّها مصدر القلاقل في سورية ولبنان.
وبشأن ما يتعلّق بوجود الولايات المتحدة في سورية، تتناقض التصريحات الأميركية المعلنة أخيراً مع ما كان مسؤولون أميركيون عديدون قد أكدوه سابقاً، ومفاده بأن القوات الأميركية باقية في سورية حتى بعد إنهاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإلى حين تحقيق التسوية السّياسيَّة، بما في ذلك ممانعة التطبيع مع النظام، وممانعة إعادة الإعمار، وتحقيق نوعٍ من التغيير السياسي، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، إذ بات التأكيد الآن فقط على دورها في الحرب على "داعش" متجاهلة أدوارها الأخرى، ربما لرغبةٍ كامنة في أن تتابع انسحابها من كامل المناطق المشتعلة، بعد أن مهّدت الطريق فيها لحرائق يصعب إخمادها، كما هو الحال في أفغانستان بعد عشرين عاماً من وجودها ومعاركها فيها، والمبالغ الطائلة التي تدّعي أنها صرفتها على تدريب جيش وطني تبيّن أنه مجرّد "جيش من ورق".
اللافت أن الولايات المتحدة، في تركيزها على إيران، باعتبارها خطراً يتهدّد مصالحها، ووجودها في المنطقة، باتت تتعاطى مع ذلك من مدخل منعها من الوصول إلى القدرة على إنتاج سلاحٍ نووي، وتحجيم نفوذها خارج حدودها، أي في العراق وسورية ولبنان واليمن، بما في ذلك مليشياتها العسكريّة، والنظر إليها بصفتها أحد مصادر نشوء الجماعات الإرهابية في المنطقة، أي أنها باتت تتصرّف، ولو شكلياً، بناءً على رؤية ترى أن معالجة مشكلات المنطقة، أي فرض الاستقرار في سورية والعراق ولبنان، ومكافحة الإرهاب، لا بُدَّ أن تمرّا من باب تقليم أظفار إيران النووية فقط، وإجبارها على تغيير أدوارها، سواء في الملف السوري أو في العراق، وصولاً إلى الحرب اليمنية، وانتهاء بتدجين مليشياتها في لبنان، بما يؤدّي إلى إعادة توزيع جديد للأدوار في المنطقة.
بيد أن ذلك لا ينبغي أن ينسينا أن إيران أدّت مهمّتها على أتمّ وجه، في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، من وجهة النظر الأميركية (وإسرائيل)، إذ غيّرت فعلياً أولويات المنطقة التي كانت قد اعتادت عليها خلال عقود عديدة، وأعادت تصنيف قضاياها وأنعشت تقسيماتها الدينيّة والطائفية. واللافت أنه في ظل تنامي الخطر الإيرانيّ، لم تعد مواجهة إسرائيل أولوية لدى الأنظمة العربية، بل كادت القضية الفلسطينية ألا تبقى عربية، بعد أن صادرتها إيران ووظّفتها لصالحها، باحتلالها ما يسمّى محور المقاومة والممانعة، وصعود أداتها اللبنانية، أي مليشيا حزب الله، في لبنان وسورية.
على ذلك، ليس الإعلان عن سياسات أميركية جديدة في المنطقة إلا بمنزلة اعتراف أميركي بانتهاء الدور الحالي الموكل لإيران، من دون أن يعني ذلك إزاحتها من المشهد نهائياً، حيث المطلوب فقط تحجيم دورها وتحديد مساحة حركتها إلى حدودها، الأمر الذي يشكّل مصلحة للولايات المتحدة (ولإسرائيل)، فالولايات المتحدة لا تريد إيران ذات قدرات نووية، ولا إيران التي تستطيع تهديد منابع النفط أو تقويض استقرار دول الخليج العربي، ولا إيران التي تدعم الإرهاب والمليشيات المسلحة، ولا إيران التي يمتد نفوذها من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق، ولا إيران التي يمكن أن تنافس المكانة الإقليميّة لإسرائيل.
المسألة الآن معرفة كيفية تعامل إيران مع هذه التطورات الجديدة، أو هل ستقاومها؟ وإلى أي درجة؟ لأنه بناء على ذلك، يمكننا معرفة مدى وطريقة التعامل الدولي مع إيران لوضعها عند حدّها. وفي ذلك كله، يبدو أن الولايات المتحدة تعيد، في كلّ مرة، جدولة الأولويات حسب ما يتفق والدور الذي ترغب به، وهي فيما يتعلق بسورية لا ترى الخطر إلا من خلال إيران، ما يعني أن وصولها إلى حلٍّ مع إيران قد يُلغي أي رغبة أميركية في الوجود في شرقي الفرات، ما يستدعي من القوى التي تتحامى بها إعادة النظر في مصدر قوتها وشرعيته، حتى لا تُصاب بهلع الأفغان وتهاوي الأمل بما بنته على مر سنوات قتالها مع "داعش".
باختصار، على كل من يحتمي بغير شعبه أن يعتبر مما حدث مع الأفغان، والحال ليس بعيداً عن السوريين، فقد بنت الولايات المتحدة أدوارها على مصالحها، وهي لن تتأخّر في استكمال خطواتها التي تراها تتوافق معها، حتى على حساب إسرائيل ربيبتها التاريخية، فكيف عن حلفاء جدد قد تتبدّد مصالحها معهم في حال نفّذ النظام السوري متطلباتها التي مرّرتها عبر وسطاء النظام إليها؟
المصدر صحيفة " العربي الجديد"