صحافة

مجنون اللاذقية وبهلول الجزيرة وعقلاء الساحل

السبت, 28 يناير - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

أحمد الشمام 


لطالما كنت منذ الطفولة شغوفا بالنظر إلى المجانين وتتبعهم، بدءا من قريتي الصغيرة التي لم تحوِ مجنونا – ربما سيثبت فيما بعد أنه سيكون أنا- إلى القرى المجاورة التي كان يتجول فيها "سعود النسو" الذي قيل إنه قرأ كتاب شمس المعارف فكشفت له الأستار والحجب فعرف الحقيقة ولم يحتمل عقله فجن، وصار يلوب بين القرى والأرياف، يلاحقه الصغار دون أن يرد عليهم أو يخيفهم وهم يرمونه بالحجارة وقطع الحطب الصغيرة، وكم تحينت الفرصة لآخذ من أمي خبزا وأعطيه له، فقط ليتسنى لي النظر في تقاسيم وجهه وعينيه عمقهما ورجفتهما. 

بقي هذا الشغف حتى سن الشباب ودخولي الجامعة في مدينتي اللاذقية وحلب. في حلب كان المجانين بسطاء جدا ينامون في الشارع كما في أوروبا الآن ويتدبرون حالهم دون ملاحظة ترجى؛ سوى من حاولت التحدث إليهم فوجدت فيهم الجامعي، أو المعتقل السياسي، أو البسيط الأمي الذي لا يتقن القراءة والكتابة؛ وسألوه في المعتقل عن كارل ماركس، والإخوان المسلمين، والبعث العراقي، وبعدما نال نصيبه من شرب فناجين القهوة في ضيافة المخابرات بتهمة عضوية القيادة القومية في البعث العراقي صار حرا من قيودهم وانفلت من إسار عقله أيضا. 

غير أن ما يبتدعه العقل في الجنون أعلى مما يتحصله أو يتخيله العقلاء، ففي اللاذقية في شارع هنانو عام 1990 كان هناك شخص نظيف بثياب أنيقة؛ لكنها تشبه موديلات شعرائنا ومثقفينا الذين انبهروا بموضات الثقافة والنخبوية فيما بعد ولعلهم قلدوه، كان يقف كل ليلة أو اثنتين وقت التسوق في ركن يراه الجميع ولا يحوي محالّ ولا مواقف سيارات يتوسط رصيفين نظيفين بنهاية مغلقة، يفرش طعامه الجاهز على رصيف ويضع زجاجة الخمر على الرصيف المقابل، يتمشى قليلا يشعل سيجارة، ينهش قطعة من الفروجة المشوية ثم يتمشى إلى رصيف المشروب ويرشف شيئا وبعد برهة يصيح "الجمهورية العربية السورية تعداد سكانها 11 مليون مواطن، ومساحتها 180 ألف كم مربع، ويرشف من قنينته المجاورة، يمشي قليلا ثم يصيح بصوت جهوري لا يدل على جنون بل وكأنه يخطب في الناس جميعا" سوريا بلد الصمود والتصدي مساحتها.....، سكانها...، وفيها ...ألف شجرة زيتون و.... ألف شجرة حمضيات، جيشها البطل يحرسها في الأرض والسماء، تحت كل شجرة جندي وفي كل حقل كتيبة تحرس الزيتون والحمضيات وتأكلهما معا، على كل بئر نفطي كتيبة تحرسه وتأكله من تحت الأرض"، وبتوافق تام مع تلك اللحظة ينهش فخذ الدجاجة ويردف: والدجاج يدفع الثمن،  ويقذف العظم يمنة أو يسرة على أرض الرصيف بقوة ثم يكرع الخمرة ويتأوه، يمشي خطوات وئيدة ثم يلتفت ويعدد مؤسسات الدولة والعسكر الذين توزعوا لحراستها تحت أمر النجوم التي تعبق بها الرتب الوطنية ويأكل بقية الدجاجة حتى ينتهي من آخر عظمة وينفث كل طاقته وتنتهي سهرته وفوضى سكرته، ثم يقوم بتعديل هندامه ويجمع العظام الموزعة يمنة ويسرة ويضعها في كيس يرميه في صندوق القمامة ويغادر بهيئة كبرياء من أدى رسالته ويغيب في الزحام. 

يظلم الكثير منا المجانين ويربطهم بالشحاذين والمتسولين وأولئك لهم قصة أخرى ويبدو أن قسما منهم كان مؤدبا جدا في حين تتلمذ الآخر على أيدي مسؤولي النظام وامتهنوا الأمر حتى صار أحدهم لزقة تشبه بقوتها لزقة الأسد المشهورة في بلادنا، وهكذا صار على من لم يجن بفعل فروع المخابرات أن يجن لفيض قهره، حتى جاء اندلاع ثورتنا انتصارا للكرامة وللعقل والإنسان الذي يسميه الأسد وزبانيته خيانة أو عمالة أو اندساسا أو جنونا، فبقي من بقي معه يحمل هم عقله الذي طواه كصنم من تمر  في خزانة المؤونة التي امتلأت من تعفيش المدن، واستبدله بالبوط العسكري، والآن وبعد انهيار الليرة و فراغ خزانة المؤونة ربما قد يجمع البوط العسكري مع صنم عقله ليأكله، وعندما يريد تفقد عقله سينظر بلا شك إلى  ساعة حائط أتته كمكافأة لمقتل ابنه وتحولت لأيقونة قد تنفع أن ينزلها هي الأخرى إلى وسط الغرفة المتهالكة ويتدفأ بها مع ما تبقى من أسرته. وفزنا نحن مجانين سوريا بعقولنا وكرامتنا كما قالها فلاح سوري في فيديو متداول "إنا خرجنا بما هو غال علينا من كرامة وشرف وتركنا لهم ما لا قيمة له". 

في إدلب وبلدان الشتات تعاونت كل قوى العالم لتهجر من صرخوا بقوة وبلا ادعاء للجنون ليزيحوا الغيم عن سماء سوريا ويعيدوا المجانين إلى مساحات حياتهم وللجنون اعتباره وخذلتهم قوى الأرض، قد يجوع المشردون والمهجرون لكنهم لن يحتاجوا لادعاء الجنون ولا ادعاء الكرامة التي امتلكوا ناصيتها وتاجها ولننتظر ماذا سيحيق بعقلاء الأسد وكأنه عنى بطرح سوريا المفيدة تصدير كل مجانين سوريا أو مشاريع المجانين  إلى إدلب وغيرها وتركها مساحة لمجانين الأسد، غير أنا نشفق على من لم يستطع أن يخرج، ويحضرني قول الشاعر أبي الطيب المتنبي:      ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله      وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم 

وقال عنترة بن شداد العبسي: 

لا تسقني ماء الحياة بذلة     بل فاسقني بالعز كأس الحنظل 

ماء الحياة بذلة كجهنم        وجهنم بالـــــــــــــــــــــــــــــــــــعز أطيب منزل 

لقد تجرأنا على الحلم وتجرعنا الألم لأجل الحرية والكرامة وسنعود لنبذل ماء العز في سوريا عزيزة بلا أسد. 


المصدر: تلفزيون سوريا

الوسوم :