جمال الشوفي
رغم الكثير مما كتب عن السويداء، لكن يبدو أنها لليوم سؤال محير سياسيًا. فالسويداء ذات الغالبية "الدرزية"، مع نسبة ضئيلة من المسيحين والمسلمين وعشائر البدو، تشكل تآلفًا محليًا تاريخيًا قلما هدد استقراره، وترفض عموم مرجعياتها لليوم معادلات الإدارة والحكم الذاتي. وهي، ورغم تصنيفها السنوات الماضية تحت سيطرة السلطة السورية، لكنها بذات الوقت تكاد تبدو خارجة عن قبضتها الأمنية والعسكرية مقارنة بباقي المحافظات الواقعة تحت سيطرتها.
تتمايز الأدوار الاجتماعية والسياسية المحلية بالسويداء دون مستويات الحكم والسلطة. فهي لازالت تحتكم للسلطة السورية بقوانينها وتشريعاتها الإدارية، مع الاحتفاظ بتشريعات خاصة متعلقة بالزواج والميراث المعروف بقانون الأحوال الشخصية. وهذه يمكن تحديدها على محورين:
محور سياسي تمثله السلطة السياسية بقيادة حزب البعث وأحزاب الجبهة الموالية، وأمين الحزب فيها بقي رئيسًا للجنة الأمنية فيها لأعوام سابقة، قبل أن يكلف فيها عسكريو الجيش والأمن في الأعوام الأخيرة. فيما المعارضة في السويداء هي من جنس المعارضة السورية التقليدية مع رصيد شبابي ومدني توسع وازداد أثره في أعوام الثورة السابقة، التي لم تتوقف عن متابعة حراكها السلمي في التظاهرات والاعتصامات السلمية وشعارها المطروح "هنا السويداء هنا سوريا".
المحور الثاني ديني اجتماعي، متثمل خاصة في المرجعيات الدينية "الدرزية" بشكل رئيسي، والمسيحية والإسلامية. وتعتبر مشيخة عقل الطائفة "الدرزية" والوجهاء الاجتماعيين هم أصحاب الأثر الأكثر فعالية في واقع المحافظة الشعبي.
الطابع المدني العام لبيئة الموحدين "الدروز" المتعلقة بحرية التدين، أتاح مساحة واسعة للتوجه العلماني والمدني في بيئتها الاجتماعية والسياسية، إلا أن الدور الديني تزايد في الأعوام الماضية بشكل متداخل سياسيًا وعسكريًا بحكم تداخل الملفات السورية على مستوى الأقليات ومعادلتها في المسألة السورية، وشعور هذه الأقلية بالتهديد الوجودي ووقوعها بين فكي الإرهاب والتطرف كما سطوة السلطات العسكرية المحلية والخارجية. ورغم ما يبدو من عدم التوافق بين مشايخ عقلها والخلافات الناشئة بينها، لكنها تحتفظ بعلاقات دينية واجتماعية متوازنة بينها، تمكنها من التوافق العام حول مصلحة الطائفة والتماسك المجتمعي العام.
الحياد الشعبي من المقتلة السورية مثل خيارًا مبكرًا لمحافظة السويداء بعمومها، معتبرة أنه صراع دامٍ ذو خلفية دينية بين مذاهب إسلامية متنازعة على السلطة "لا ناقة لهم فيها ولا جمل". لكنها بذات الوقت عملت على تعزيز قواها الذاتية تحت عنوان الحماية الأهلية من أي اعتداء خارجي كسمة عامة اتخذها الواقع المجتمعي، تراوح بين حدي اكتفاء شر السلطة وعدم الخضوع الكلي لها والدفاع عن المحافظة من أي تهديد خارجي. فتحت عنوان حماية الأرض والعرض تشكلت حركة رجال الكرامة (مشايخ الكرامة سابقًا) كحركة أهلية خلال العام 2013. استقطبت الشباب المتخلف عن الخدمة العسكرية من كافة الشرائح، متدينين ومدنيين، وشكلت لها بيارق محلية دلالة على صد عدوان مفترض في أغلب قرى ومناطق المحافظة (البيرق هو راية محلية استخدمت تاريخيًا في أثناء صد الغزوات التي تعرض لها جبل العرب من المصريين أو العثمانيين أو الفرنسيين).
امتازت الحركة وفصائل الحماية الأهلية بالممارسات المعتدلة سياسيًا وعسكريًا أهمها: عدم الاعتداء على أي سوري وحرمة الدم السوري، وعدم الانجرار لأي معركة عسكرية سواء مع السلطة أو فصائل المعارضة العسكرية خاصة في درعا المجاورة، إلا إذا فرضت عليها في داخل أراضي السويداء.
كما أعلنت منع الاعتقال الأمني بحجة السوق للخدمة العسكرية. وقد تعرضت قيادة الحركة لتفجير مدبّر أدى لمقتل قادتها الأوائل وعلى رأسهم الشيخ وحيد البلعوس عام 2015، تشير تقارير وشهادات محلية لضلوع الأجهزة الأمنية وأيادٍ إيرانية فيه. ليصيب الحركة بعدها التشتت العام بين فصائل متعددة منتشرة على كامل ساحة المحافظة، مع انتقال مركزية الحركة لقيادة جديدة من وقتها لليوم متمثلة بالشيخ يحيى الحجار.
في الناحية الأخرى، لم تظهر لليوم معالم عسكرية روسية مباشرة في السويداء، سوى زيارات وفودها العسكرية، وغرضها محاولة التفاوض مع الفصائل المحلية خاصة حركة رجال الكرامة، بتشكيل لواء عسكري من أبناء السويداء يتبع لإدارتها المباشرة، الأمر الذي رفض مرارًا. هذا مع تجنب افتعال مواجهة عسكرية مع الروس من قبل الفصائل المحلية. بالمقابل أثبتت أحداث صيف 2022، ضلوع الأجهزة الأمنية ومن خلفها الميليشيات الإيرانية وحزب الله في العمل على تعزيز قوة العصابات المحلية بالسلاح والمال والبطاقات الأمنية، بغية فرض سطوتها على الواقع المحلي، بديلًا عن حركة رجال الكرامة ومرجعية السويداء الدينية، وتمرير تسويق وتجارة المخدرات داخليًا وعبر الحدود الأردنية. إذ كشفت هذه الأحداث عن معمل للكبتاغون في مقر العصابة الرئيسي في قرية عتيل، بعدما قرر المجتمع الأهلي وفصائل الحماية الأهلية اقتلاعها والوقوف بحزم ضد أي مشروع ديني سياسي، كما ضد الوجود العسكري الميليشيوي سواء كان شيعيًا أو متطرفًا ورفضت أن تكون السويداء ممرًا لتهريب المخدرات والعبث بنسيجها الاجتماعي.
طبيعة أبناء هذه المحافظة مسالمة تبحث عن التعايش السلمي مع كافة أطياف الشعب السوري مع إيمان راسخ بالحرية الدينية وحقوق ممارستها. فالسويداء استقبلت ما لا يقل عن 250 ألف نازح من كافة أبناء سوريا بدءًا من العام 2012 حسب وثائق غير رسمية لناشطين وجهات محلية، ولم يزل الآلاف منهم يعيشون في السويداء لليوم. وخلافًا لموجات الخطف التي مارستها العصابات المدعومة أمنيًا، لم يشر أي تقرير لتعد من أبناء السويداء على ضيوفهم، بل على العكس أشاد بقدر الحفاوة والحس المسؤول بالتعايش السلمي. إضافة لإفشال كل محاولات الفتنة بين أبناء السويداء وعشائر البدو أو الجوار الغربي في درعا، رغم تأجيج المواقف العسكرية عام 2020 في حادثتي القريا وتعديات اللواء الخامس التابع للروس. ولكن الموقف الشعبي المتعقل لدى الطرفين لليوم يفوت الفرصة على العبث بتاريخ ونسيج المنطقة المتماسك.
لم تتوقف محافظة السويداء طوال الأعوام ال 11 عن حراكها السلمي والمدني متمثلًا بقواها المدنية والسياسية وإن كان متقطعًا، وها هي اليوم وللمرة السابعة وللشهر الثاني تتابع اعتصاماتها الصامتة تعبيرًا عن ربط: التغيير السياسي السوري الوطني العام بالحل على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي يعيشها كل السوريين، بين الحرية والخبز، وبين العمق الوطني والدور المركزي للوجدان السوري المهمش من الفاعلية. ولسان حالهم يردد:
الصمت حين العوز والحاجة كبرياء، وحين الفتنة تعقل. وقفة الاعتصام الصامت في زمن كثرة قلاقل المشاريع السياسية دون الحل العام الوطني، بلاغة تسمع من به صمم، فهل وصلت الرسالة؟ وهل يمكن للسويداء المساهمة بتعديل كفة العمل السياسي السوري العام اتجاه التغيير المفترض واللازم لوقف ما تبيته الغرف المظلمة لمستقبل سوريا من سوء؟
المصدر: تلفزيون سوريا