الطريق- فراس علاوي
ترتكز الاستراتيجية التركية في سوريا منذ تدخلها، على نقاط أساسية تعد المحرك الأساس للسياسات التركية، وأهم هذه النقاط:
-الأمن القومي التركي: الصراع التركي مع الأحزاب الكردية الانفصالية قديم ومتجدد، خاصة حزب العمال الكردستاني الذي يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي، لذلك كانت الثورة السورية فرصة لزيادة التدخل التركي من جهة والسيطرة على إحدى الجبهات التي من الممكن أن تستخدم ضدها من الأراضي السورية.
-منع قيام كانتون كردي: وقد سعت "قسد" بدعم من الأحزاب الانفصالية لإقامته، وبالتالي قيام شبه دويلة في خاصرة تركيا الجنوبية، تهدد العمق التركي وتكون منطلقاً لتهديدات محلية وإقليمية ودولية لتركيا.
-إقامة نطاق حماية داخل الأراضي السورية، ولعمق معين يرغب الأتراك بأن يكون حتى 30 كم داخل الأراضي السورية، وهو تطوير لاتفاق أضنة 20 أكتوبر 1998بين الحكومة التركية والحكومة السورية آنذاك، الذي سمح للأتراك بالتوغل وملاحقة المطلوبين لعمقٍ معين، ولها عدة ملاحق أمنية وأخرى تتعلق بتشاطِئ نهر الفرات وحصص المياه.
-منع قيام موجات جديدة من الهجرات إلى تركيا، وبالتالي تخفيف الضغط على الداخل التركي.
-أن يكون لتركيا دورٌ مستقبلي في إعادة إعمار سوريا من جهة، وكذلك في العملية السياسية السورية المستقبلية من جهة أخرى، وبالتالي تصبح سوريا ورقة ضغطٍ إقليميٍّ بيد تركيا.
يبدو أنَّ تركيا نجحت نوعاً ما في تحقيق كثير من أهدافها الاستراتيجية التي وضعتها من خلال تدخلها في سوريا؛ أول هذه المكاسب عودة تركيا كلاعب إقليمي سياسي وعسكري له الأولوية في أي حلول مستقبلية في المنطقة، وبالتالي التحول من سياسة "صفر مشاكل" التي عمل عليها حزب العدالة والتنمية سابقاً إلى دور فاعل وقيادي في المنطقة، ولا يخفى على أحد أهمية المنطقة بما يتعلق بالسياسة الدولية ولعبة الأمم فيها، إذ تعتبر المنطقة أحد ميادين الصراع الدولي للسيطرة على العالم، وأي بلد يمتلك أوراق قوة فيها يعتبر لاعباً مهماً فيها.
-تمتلك تركيا أوراقاً مهمة تستطيع من خلال استخدامها تحقيق ما تريد، سواء على الأرض من الناحية العسكرية أو في ميدان السياسة.
إذ تسيطر تركيا، بشكل مباشر أو غير مباشر، على قرار الفصائل المعارضة في الشمال، وتستخدمها كورقة ضغط على القوى المتداخلة في المنطقة، خاصة القوى المدعومة من الولايات المتحدة شريكتها في حلف الناتو، والمقصود هنا "قسد" بتشكيلاتها السياسية والعسكرية.
كذلك تسيطر تركيا على القرار السياسي للمعارضة السورية، وهي ورقة مهمة في إدارة الصراع السياسي في سوريا والبحث عن مخرج في ظل الاستعصاء الحاصل بسبب التعنت الروسي والتداخل الدولي المتشابك.
كذلك تعتبر ورقة اللاجئين السوريين، وخشية أوربا من تكرار موجة لجوء عام 2014-2015، ورقة مهمة بيد الحكومة التركية.
ولعلَّ الورقة الأهم التي تملكها تركيا تتضح في علاقاتها المتوازنة بين كلٍّ من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي تستطيع موازنة مصالحها واللعب على شفير الهاوية بين البلدين، وهذا ما حصل في أكثر من مناسبة، إذ تتغير التقاربات بين تركيا وكلٍّ من روسيا والولايات المتحدة حسب توتر العلاقات.
فتوتر العلاقات الروسية التركية يقابله تقارب أمريكي تركي، والعكس صحيح، ويدرك المسؤولون الأتراك ضرورة وفائدة هذه السياسة حالياً؛ بسبب التوتر المتصاعد بين القوتين العظميين؛ لذلك يحاولون استغلال هذا التوتر وتحصيل مكاسب أكبر، قبل حدوث تغييرٍ ما قد يكون مفاجئاً يغير ويخلط أوراق اللعبة مجدداً.
التدخل العسكري التركي بُنِي على استراتيجية واضحة؛ وهي السيطرة على الأرض لعمق معين حسب تصريح الرئيس التركي أردوغان في 29 أيار الماضي، والذي قال فيه إنَّ بلاده تعتزم استكمال "الحزام الأمني" الذي تعمل على إقامته على طول حدودها مع سوريا في أسرع وقت ممكن، مشيراً إلى أنّ أنقرة لا تأخذ إذناً من أحد لمكافحة الإرهاب وستتدبر أمرها بنفسها.
محدداً بذلك طبيعة العملية العسكرية المرتقبة دون تحديد مكانها وزمانها.
العملية التي تم الإعلان عن عزم الجيش التركي القيام بها بمشاركة فصائل المعارضة، تأتي استكمالاً للعمليات السابقة التي قامت بها تركيا في سوريا، والتي كان الهدف منها السيطرة على مناطق محاذية للحدود التركية السورية ولعمق ٣٠ كم، وإبعاد خطر التنظيمات الكردية وتقطيع أوصال ما سُمِّي بمنطقة "روج آفا"، إلا أنَّ تشابك التداخل الدولي وتنوع مناطق السيطرة والمتغيرات السياسية الإقليمية والدولية، جعل الحكومة التركية مضطرة للقيام بالعملية العسكرية على دفعات؛ فكانت عمليات درع الفرات آب ٢٠١٦ والتي استعادت بها مدينتي جرابلس والباب، وقطعت الطريق على سيطرة الأحزاب الكردية عليها بحجة طرد تنظيم "داعش". وتعتبر هذه العملية سهلة نسبياً؛ لأنها حصلت على توافق دولي، كون الهدف هو تنظيم يعتبر معادياً لجميع القوى المتداخلة على الأرض.
العملية الثانية غصن الزيتون، والتي أعلن عنها في كانون ثاني ٢٠١٨ ، كانت تستهدف مدينة عفرين وبالتالي السيطرة عليها وإبعاد خطر "قسد" وخطورة تشكيل كانتون كردي على الحدود، إلا أنَّ هذه العملية لم تكن بالسهولة السابقة ذاتها؛ إذ شهدت فيتو أمريكي منع القوات التركية حينها من السيطرة على منبج.
شهدت المرحلة اللاحقة تعنتاً أمريكياً استمر لعدة أشهر، حتى أطلق الأتراك عملية نبع السلام، في تشرين أول ٢٠١٩ سيطرت خلالها تركيا بالتعاون مع الفصائل المشاركة معها على مناطق واسعة من ريفي الرقة الشرقي والحسكة الشمالي، وأبرز تلك المدن تل أبيض ورأس العين وسلوك، لكن العملية توقفت قبل الوصول لعين عيسى؛ بسبب المواقف الدولية خاصة الأمريكية والأوربية وما سمي حينها اتفاق أورفا آب ٢٠١٩.
استكمال هذه العمليات يعتبر ضرورة ملحة لتركيا، وإلا فقدت قيمتها الاستراتيجية، وهناك ثلاث مناطق هامة لاستكمال هذا النطاق الأمني، وتعتبر الأهدافَ المقترحة للعملية، وهي "عين عيسى" التي تمتاز بأهمية استراتيجية لربطها مناطق شرق وغرب سيطرة قسد ببعضها البعض وبالتالي السيطرة عليها، وهي المرجحة كونها ستنهي أي تواصل جغرافي وعسكري لمناطق قسد، وبالتالي تفكيكها وسقوطها عسكرياً، وهي الأهمية ذاتها لمدينة منبج وتل رفعت، والتي في حال السيطرة عليها ستخدم سياسة الحكومة التركية في إعادة اللاجئين للمناطق التي تتم السيطرة عليها، وبالتالي سحب ورقتهم من المعارضة التركية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التركية.
كلما توسعت العملية التركية تجد عوائق جديدة في طريقها؛ بسبب تداخل وتنوع السيطرة في تلك المناطق، وبالتالي فإنَّ العملية المزمع إطلاقها ستواجه المعوقات ذاتها مع ملاحظة أن الظرف الدولي قد يدعم القرار التركي بالعملية، إلا أنه في الوقت ذاته لن يسمح بأن تكون عمليةً مفتوحة وغير محددة، وهو ما تفهمه الحكومة التركية وترغب بالإسراع بتنفيذه من أجل الاستفادة من هذه المتغيرات المتعلقة بشكل مباشر بالحرب الروسية الأوكرانية وموقف الغرب والأمريكان منها.
التعويل على الانسحاب الروسي خطأ استراتيجي قد تقع به القوى المتداخلة، وهو ما أعلنه الروس بنشر منظومات دفاع جوي من نوع "بانتسير" في القامشلي، في رسالة مزدوجة للأمريكان والأتراك.
كذلك التصريحات الأمريكية التي لم ترحب ولم ترفض العملية التركية.
في ظل هذه المتغيرات، تبدو العملية التركية أمراً واقعاً، لكنها تشبه إلى حدٍّ ما مشرط الجراح الذي يخشى أي خطأ قد يودي بالعملية؛ ما يجعلها عملية سريعة ودقيقة وبأهداف محددة ومحكومة بالاتفاقات الروسية التركية كاتفاق 5 آذار ٢٠٢٠ او اتفاق أورفا آب ٢٠١٩ بين الأتراك والأمريكان.
ولعلَّ النتيجة الأهم لهذه العملية التي ستخلط الأوراق مجدداً، ستكون في إقامة منطقة أمنية تركية من جهة وبقعة جغرافية تُدار من قبل الفصائل والحكومة المؤقتة ومجالسها المحلية، بانتظار الحل النهائي الذي سينتج عن توافقات دولية وإقليمية قد تتفق بجزءٍ منها مع رغبات وآمال السوريين.