حسن النيفي
شهدت مدينة منبج يوم الأربعاء الماضي ( 19 – 7 – 2023 ) إضراباً عاماً شمل معظم القطاعات العاملة في المدينة، ولعل هذا الإضراب لم يكن الوحيد خلال سبع سنوات مضت على وقوع المدينة تحت سلطة قسد، فلا يكاد يمر عام إلّا ونشهد فيه أكثر من حالة احتجاج، يُعدّ الإضراب الشامل أكثرها جذريةً وتعبيراً عن رفض المواطنين لممارسات سلطة الأمر الواقع، ولكن بالعودة إلى فحوى احتجاجات سكان منبج نجد أن مضامينها لم تتغيّر منذ ان أحكمت قوات قسد سيطرتها على المدينة في آب 2016 وحتى الوقت الحاضر، وبعيداً عن التفاصيل حول الباعث الحياتي والمعيشي لاحتجاجات السكان، إلّا أن ثمة هاجسين كان لهما الدور الأبرز في إبقاء حالة دائمة من التوتر لدى أهالي المدينة، يتجسّد الأول بحملات التجنيد الإجباري التي لم تنقطع، والتي تستهدف قطاع الشباب لسوقهم إلى جبهات القتال التي تختارها قسد، تحت ذرائع وموجبات لا قدرة لها على إقناع أحد ممن تستهدفهم، إذ ربما يجد معظم الشباب أنفسهم تحت وطأة الفقر وندرة فرص العمل والبؤس المعيشي مدفوعين للعمل المياوم لدى السلطة الحاكمة، كحفر الأنفاق وإنشاء السواتر الحربية وسوى ذلك، أمّا القتال في الجبهات فلا شك أنه يستدعي حالة من التساؤل لدى معظم الناس، إذ ما هي طبيعة المعارك التي توجب على شباب المدينة المشاركة فيها؟ هل هي في مواجهة نظام الأسد الذي يُعدّ الجذر الحقيقي للمأساة السورية، ام هي في مواجهة قوى أخرى إرهابية تهدد أمن المدينة وحياة سكانها؟ الجواب لا بالطبع، ولكن المواجهة التي يُطلب من شبان المدينة ان يكونوا وقوداً لها هي الحرب القديمة الجديدة بين حزب العمال الكردستاني pkk وبين الحكومة التركية، تلك الحرب التي تم ترحيلها من تركيا إلى البلاد السورية عبر حزب الاتحاد الديمقراطي pyd ، وهذا ما يجعل محاولات قسد لسوق شباب المدينة وتجنيدهم في تلك الحرب اغتصاباً لمصيرهم واعتداءً على إراداتهم وتهديداً لحيواتهم، فضلاً عن إحساس عميق لدى سكان المدينة عموماً بحالة من عدم الانتماء المتبادل بين الطرفين – السلطة الحاكمة والسكان المحليين – الأمر الذي يحيل إلى اعتقاد راسخ لدى أهالي منبج بأن مقدّراتهم الحياتية ومقوّماتهم الاقتصادية ليست ملكاً لهم وإنما يُراد لها ان تُستثمر لخدمة مشروع حزبي وافد لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وقد باتت ملامح هذا النزوع الطاغي تتوضح أكثر من خلال السيطرة الحزبية لتنظيم ( pyd ) على جميع مفاصل الاقتصاد والتجارة والأمن ولم يُترك للسكان المحليين سوى قطّاع العمل المياوم وبسطات الخضار المتنقلة، أو التفكير بمغادرة المدينة واللجوء إلى قوارب البحار أو الطرق الموغلة في الغابات للهجرة إلى الخارج.
ويتمثل الهاجس الثاني لدى أهالي منبج باستمرار حالة ( الحاكم المجهول )، إذ ربما كان من الصحيح أن هناك سلطة حاكمة تتجسّد بمجلس تنفيذي وكذلك بمجلس تشريعي ودوائر خدمية ومؤسسات وموظفين قائمين عليها، ولكن هؤلاء جميعاً ليسوا في موقع صنع القرار وليسوا مصدر سلطة، إذ ثمة مسؤولون حقيقيون لا أحد يعرف عنهم شيئاً سوى أسمائهم الحركية ( هفال فلان ) ومعظم أسمائهم غريبة، ولا أحد يعرف هؤلاء أهم أكراد إيرانيون أم أكراد أتراك أم سوى ذلك، وهذه الشخصيات المجهولة من جانب السكان هي صاحبة القرار والقابضة على جميع المفاصل الاقتصادية والتجارية والعسكرية والأمنية في المدينة، وهذا ما يعزز اتساع الفجوة بين السكان والسلطة القائمة، بل يجعل من العلاقة بين الطرفين تمضي إلى توتر متصاعد قابل للانفجار في أي وقت.
لعل ما هو لافت للانتباه ، أنْ شاءت الأقدار أن يكون تاريخ الإضراب العام هو ذاته تاريخ تحرر مدينة منبج من سلطات الأسد ( الأربعاء 19 – 7 ) ولكن عام 2012 ، الأمر الذي يجعل الكثير من مواطني المدينة ينظرون بحسرة المتسائل ويقين العارف بآن معاً إلى عشر سنوات خلت، خضعت مدينتهم خلالها لسلطتي أمر واقع ( داعش 2014 – 2016 ) وقسد ( 2016 – وما تزال حاكمة) ، وربما مضى الكثير منهم بالمقارنة بين السلطات التي تعاقبت في السيطرة على المدينة، بل يبقى السؤال الأكثر حضوراً لدى سكان مدينة منبج في يوم الإضراب عن الإحساس المشترك بين التاسع عشر من تموز في 2012 وبين التاريخ ذاته في عام 2023 .
ما هو جدير بالوقوف عنده أن المجلس السياسي لقوات قسد، قد أصدر بالتشارك مع هيئة التنسيق الوطنية وثيقة في شهر حزيران الفائت تفصح عن تفاهمات سياسية بين الطرفين، كما تفصح الوثيقة عن توجه الشريكين السياسيين نحو تشكيل جبهة وطنية ديمقراطية تكون نواة لحالة من الإجماع الوطني بغية العمل على تحرير الشعب السوري من الاستبداد والانتقال نحو دولة القانون والديمقراطية وفقاً للوثيقة المذكورة، أضف إلى ذلك أن قسد تؤكّد على الدوام أن نموذجها الحالي في الحكم والإدارة في المناطق التي تسيطر عليها هو النموذج الأمثل الذي يمكن استنساخه في جميع الأرض السورية، ولم تخف سلطات قسد سعيها نحو إقناع الأطراف الدولية بمشروعية نموذجها المذكور وتطالب المجتمع الدولي على الدوام بممارسة المزيد من الضغط على بقية أطراف المعارضة السورية والدول الإقليمية النافذة في الشأن السوري لإعطائها مشروعية تمثيل السوريين لدى المرجعيات الأممية، ولكنها في الوقت ذاته لا تخفي سعيها للتفاوض مع النظام الذي تزعم أنها ستقيم نموذجها الديمقراطي على أنقاضه، أملاً في أن يمنحها شرعية دستورية لإدارتها الذاتية في المناطق التي تسيطر عليها فقط، وهكذا نجد أن مشروع ( الأمة الديمقراطية) قابل للتمدد والاختزال، وفقاً للظروف وموازين القوى، ووفقاً لمصالح أمنية تضمن استمرارية الحفاظ على كيان حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكري، ولعل السؤال الأهم الذي يمكن أن يُطرح: أليس حريّاً بمن يزعم أنه يسعى لقيادة جميع السوريين وتمكينهم من التحرر من الطغيان والانتقال نحو دولة الحريات، أن يكون قادراً على التصالح مع سكان بضعة مدن وبلدات يحكمها، من خلال احترامه لحقوقهم واستعداده للدفاع عنها وعدم الاعتداء على مقدراتهم ومصادر أرزاقهم ومقوّمات أمنهم؟
ما هو مؤكد أن المصادفة وحدها من زامنت بين تلاقي ذكرى التحرير ويوم الإضراب، ولعله من الصحيح أيضاً أن دوافع السكان حيال انتفاضة التحرير من سلطة الأسد، تختلف إلى هذه الدرجة أو تلك عن دوافعهم الكامنة وراء احتجاجاتهم وإضرابهم في مواجهة سلطة قسد، إلّا أن هذا الاختلاف لا ينفي شعوراً قائماً في الحالتين معاً يحيل إلى أن تعدد السلطات واختلاف أسمائها لا يغيّر من ماهيتها إن كانت متماثلة.
المصدر: تلفزيون سوريا