رأي

عَمَّ يبحث بيدرسون في هشيم المسارات السياسية؟

الأربعاء, 23 نوفمبر - 2022

الطريق- حسن النيفي


لعلّه من غير المُستغرب أن تكون اللامبالاة هي أبرز ما يميّز مواقف الكثير من السوريين حيال المسارات السياسية بمجملها، سواءٌ أكانت جنيف هي الوِجهة أم أستانا، ليس عزوفاً عما يجري في المشهد السوري، ولا تجاهلاً لحالة البؤس التي باتت تحاصرهم من الجهات كافةً، بل ليقينهم بأن تلك المسارات أصبحت جزءًا من المشكلة ولم تعد سبيلاً إلى الحلّ كما توهّم الكثيرون من ذي قبل، إذ إن مجمل الكوارث المتعاقبة منذ العام 2012 كانت تتدافع على وقع اللقاءات وجلسات التفاوض التي تنظّمها وتهندسها الأطراف الإقليمية والدولية، بدءًا من اجتياح قوات الأسد - مدعومةً من الروس -  لحلب الشرقية في نهاية العام 2016 ، مروراً باجتياح الغوطة الشرقية في آذار 2018 ، ومن ثم اجتياح درعا في تموز من العام ذاته، ثم استمرت اجتياحات النظام وحلفائه في شتاء عام 2020 لكل من خان شيخون وسراقب ومعرة النعمان وكفرنبل، إضافة إلى العديد من بلدات وقرى ريف إدلب وحماه، وريف حلب الغربي، موازاةً مع عمليات تهجير ونزوح طالت مئات الآلاف من المواطنين السوريين، أمَّا سياسياً، فقد استطاع الروس تفكيك قراري مجلس الأمن (جنيف1 و 2118 و 2254)، وبعد أن انتثر عقد تلك القرارات التقط الروس من نثارها ما يريدونه فقط، ورموا بالباقي جانباً، إذ من بين سلال ديمستورا الأربع، كانت سلة الدستور وحدها الهديّة المقبولة عند روسيا، لا لفحوى حمولتها بالتأكيد، بل لأنها السلة الوحيدة التي تتيح لنظام دمشق فضاء غير محدود للمناورة والخداع واستثمار الوقت. وعلى الرغم من مرور ثلاثة وثلاثين شهراً على صدور قرار تشكيل اللجنة الدستورية (سوتشي أواخر العام 2019 ) فإن مسارها لم يفض سوى إلى الخواء بالنسبة إلى السوريين، أمّا بالنسبة إلى النظام وحلفائه فإنها – دون أدنى ريب – قد ضمنت لهم سيرورة الانتقال إلى مسار آخر كثر الحديث عنه، وحظي بتوافق إقليمي عربي وغير عربي، إلّا أن الأطراف الدافعة لهذا المشروع ربما آثرت أن يحظى المبعوث الدولي (غير بيدرسون) بشرف الإشهار عنه.

لعل الإحاطة التي قدّمها السيد بيدرسون أمام مجلس الأمن عن الوضع في سورية بتاريخ الخامس والعشرين من شهر تشرين أول الماضي، حملت في مضامينها تبشيراً واضحاً بمسار سياسي جديد يرى فيه المبعوث الدولي مخرجاً لحالة الانسداد التي وصلت إليها العملية السياسية في سورية، وقد صرّح باسم مشروعه الجديد بلا أي مواربة، إنه مشروع (خطوة مقابل خطوة) الذي بشّر به ملك الأردن على أعقاب زيارتين متتاليتين له، الأولى لواشنطن في شهر حزيران عام 2021 ، والثانية لروسيا في شهر آب من العام ذاته، إذ كان قد أكّد له الرئيس الروسي بوتين دعمه وتأييده لتلك الفكرة، وعلى الرغم من الحماس الأردني للشروع في تنفيذ (خطوة مقابل خطوة) إلّا أنَّ ثمة كوابح قد حالت دون ذلك، لعل أبرزها هي الصدمة التي شعر بها الأردن إبان انفتاحه على نظام الأسد، ومواجهته لخطر الكبتاغون والمدّ الطائفي الإيراني الذي بات يسعى لجعل الأردن ممرَّ عبور للمخدرات نحو المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.

اليوم، ومنذ تأكيد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف على انعقاد اللقاء التاسع عشر من لقاءات أستانا في ( 22 – 23 من شهر تشرين الثاني الجاري)، يُجري المبعوث الدولي بيدرسون لقاءات متعددة ومكثّفة مع الأطراف المتفاوضة، سواء مع وفد نظام دمشق، أو مع هيئة التفاوض، تمهيداً لطرح مشروعه الجديد الذي يمكن أن يكون مخرجاً لانسدادات جنيف وأستانا وفقاً لبيدرسون، فهل سيكون مشروع (خطوة مقابل خطوة) هو الخليج الأخير الذي سيصب فيه ما تبقى من روافد جنيف وأستانا؟

من الناحية الفعلية يدرك بيدرسون أن ثمة عقبات تعترض مشروعه، لعل أبرزها عقوبات قيصر المفروضة أمريكياً، فضلاً عن الموقف الأمريكي الرسمي الذي ما يزال غير مُشجّع لأي انفتاح أو تطبيع مع نظام الأسد، إذ ما تزال واشنطن تقرن موقفها من نظام دمشق باستراتيجيتها حيال إيران، وربما موقفها من روسيا الذي ازداد حدّةً وتوتراً بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، قد جعلها أكثر رفضاً – على الأقل في الوقت الراهن – لأي انفراد روسي في المسألة السورية، أمّا على المستوى العربي فمن المستبعد أن يحقق بيدرسون اختراقاتٍ من شأنها أن تفتح الطريق لمساعيه الجديدة، وذلك على ضوء ما أفرزته قمة الجزائر المنعقدة أواخر الشهر الماضي، إذ ما تزال الدول العربية الأكثر فاعلية من الناحية السياسية (السعودية وقطر ومصر) رافضةً لأي انفتاح سياسي أو خطوة تطبيعية مع الأسد دون حصول تقدّم في المسار السياسي يستند إلى المرجعيات الأممية. وفي ضوء ما سبق، ما الذي ينتظره بيدرسون من وراء خطوته التبشيرية الجديدة؟

ثمة استحقاقان، لا شك أن بيدرسون ينظر إليهما بترقب، يتمثل الأول بلقاء أستانا التاسع عشر في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، والذي سعى الروس إلى تثقيله بحضور رسمي لكلٍّ من الأردن والعراق ولبنان، وهذه الدول هي من المحور الداعم لمشروع بيدرسون الذي باركته وتدفع به روسيا، إلّا أن الظروف المتحكّمة بالدول الراعية لأستانا (روسيا وإيران وتركيا) قد لا تتيح للقاء المنتظر مناخاً كافياً من الإيجابية، فبوتين العالق في المستنقع الأوكراني بات أكثر انهماكاً بهزائمه العسكرية الأخيرة، بل يمكن اعتبار تلميحاته الأخيرة حول الدعوة إلى التفاوض المباشر مع واشنطن بخصوص أوكرانيا ما هي إلّا بحث عن الخروج من مأزق هو أكثر حرجاً وأهمية مما يجري في سورية أو أي مكان آخر، ولا يبدو الحرج الإيراني أقلّ اشتعالاً من نظيره الروسي، وذلك في ظل استمرار المظاهرات المشتعلة التي دخلت في طور المواجهات المباشرة بين الشعب والقوى الأمنية، بل من غير المُستبعد أن تشهد الحالة الإيرانية طوراً دموياً لا يختلف عن المشهد السوري في بداياته، وذلك استناداً إلى منهج طهران الذي تواجه به انتفاضة شعبها، وهو المنهج ذاته الذي انتهجته سلطات دمشق في مواجهة انتفاضة السوريين. وربما كانت أنقرة هي الطرف الوحيد الذي يرى في استمرار لقاءات أستانا فرصة للتفاهمات قائمة حول مصالح متبادلة بينها وبين نظيريها الروسي والإيراني، وليس بالضرورة أن تنحصر تلك المصالح في سورية فحسب، باعتبار أن مسار أستانا لم يعد إطاراً خاصاً بالقضية السورية، بل بمصالح الدول الراعية له بشكل عام.

يبقى الاستحقاق الثاني الذي ينتظره المبعوث الدولي هو موعد انعقاد اللجنة الدستورية، وهو ما يزال مرهوناً بقبول الروس استمرار انعقاده في جنيف، وعلى الرغم من إيحاءات بوغدانوف الإيجابية في هذا الصدد، إلّا أنه لم يتحدد بعدُ أي موعد تتوافق عليه الأطراف المعنية باجتماع مرتقب للجنة الدستورية.

وفي ضوء الظروف الدولية التي يدرك بيدرسون عدم جدواها الإيجابي بالنسبة إلى ما يسعى إليه أو يبشر به من الناحية السياسية، ألا يمكن أن يكون إصراره على المضي في هذا المسعى مرتبطاً باستمرار بقائه (شخصياً) لمدّة سنة أو اثنتين قادمتين وسيطاً دولياً؟ ولمَ لا؟.