رأي

ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية..حاجة لبنانية أم مصلحة دولية؟

الثلاثاء, 1 نوفمبر - 2022

الطريق- حسن النيفي


غادر الرئيس اللبناني ميشال عون قصر بعبدا حديثاً، تاركاً خلفه أكثر من تساؤل في الأوساط السياسية المحلية والإقليمية، لعل أبرز تلك التساؤلات تتمحور حول اندفاعته القويّة باتجاه ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني من جهة، وبين لبنان وكلٍّ من سورية وقبرص من جهة أخرى، إذ ما الذي جعل الرئيس عون ساهياً طيلة ست سنوات من ولايته، ثم استفاق فجأة على هذا الحماس؟ هل هي صحوة الموت كما يقال، أم هي خطوة سياسية كان الرئيس اللبناني هو من صاغ توقيتها المناسب؟

جميع التساؤلات تبدو وجيهة ومشروعة لو أن خطوة الرئاسة اللبنانية كانت نتاجاً للسياسة اللبنانية وتسعى إلى تحقيق مصالح وطنية لبنانية قبل أي اعتبار آخر، إلّا أن واقع الحال لا يشير إلى ذلك، ولئن كانت فكرة ترسيم الحدود البحرية تحيا في أذهان الجانبين اللبناني والإسرائيلي منذ عشر سنوات، فإنّ ظهورها المباغت إلى حيّز التنفيذ وفي الأيام المعدودات الأخيرة من ولاية عون يدلّ بوضوح على أن قرار الرئاسة اللبنانية بالتفاعل الإيجابي مع مشروع الترسيم ما هو إلّا محاولة لاستثماره، باعتبار الترسيم أمراً واقعاً بفعل إرادات دولية، وربما كان الدور اللبناني هو الأقل تأثيراً بين تلك الإرادات. ولا حاجة للتأكيد على أن الولايات المتحدة الأمريكية وإيران هما الراعيان والمباركان، بل والدافعان الأساسيان لهذه المبادرة، ليس بدلالة تطور إيجابي طارئ على العلاقة بين واشنطن وطهران، بل لمصالح ملحّة طارئة لكلتيهما معاً،  ولعل سعيَ الولايات المتحدة الدائم إلى تحجيم نفوذ إيران في المنطقة والحيلولة دون تعاظم سلاحها الصاروخي البالستي وخطرها النووي، لا يمنع بأية حال من الإبقاء على قنوات مفتوحة لاستثمارها حين الحاجة، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية جعلت واشنطن ومن خلفها أوربا تعيد النظر إلى تلك القنوات مع إيران – الدولة النفطية الكبرى في الشرق الأوسط -  في ظل إصرار المملكة العربية السعودية على قرارها بتخفيض إنتاج النفط، في وقتٍ يتعاظم فيه الخوف الأمريكي الأوربي من تعاظم أزمة الطاقة على العموم، وفي هذه الحال لا تجد واشنطن حرجاً من أن يكون النفط الإيراني هو البديل، على الأقل ضمن المستقبل المنظور، أضف إلى ذلك أن تأييد حزب الله – الذراع الإيراني والدولة العميقة في لبنان – لمشروع ترسيم الحدود يُعدّ رسالة واضحة الملامح لواشنطن بأن أمن إسرائيل هو محطّ اهتمام ورعاية إيران وذراعها اللبناني معاً. 

ولئن كانت المباركة الأمريكية لفكرة الترسيم ربما تلبي حاجة افتراضية في المستقبل، فإن هذه الحاجة بالنسبة إلى طهران قد تبدو راهنة وحقيقية، بل وضرورية أيضاً، وذلك نظراً للنهج السياسي القديم الجديد الذي لا يتيح لإيران الفصل بين سياساتها الداخلية والخارجية، بل يمكن التأكيد على أن تأزّم الوضع الإيراني الداخلي نتيجة ارتفاع منسوب الاحتجاجات والاحتقان الشعبي يدفعها بقوّة للبحث عن حلول أو مخرجات للأزمة خارج إيران، وذلك من خلال تقوية أوراقها الإقليمية المتمثلة بأذرعها العسكرية المنتشرة في العديد من دول المنطقة وأبرزها لبنان، فهي تريد إبلاغ واشنطن أن لديها من الأوراق ما يمكّنها من التحكّم والتأثير على المصالح الأمريكية في المنطقة، وأنها لن تمضي في المفاوضات حول ملفها النووي بمعزل عما لديها من أوراق قوة، سواء تجسدت تلك الأوراق في لبنان أو سورية أو اليمن أو العراق، فضلاً عما تحمله رسالتها من استباق لأي محاولة أمريكية لتقديم دعم للحراك الشعبي في إيران يتجاوز الدعم الإعلامي. ولعل الأهم من ذلك كله هو أن اتفاق ترسيم الحدود، باعتباره لا يجسّد اتفاق سلام بين البلدين من الناحية السياسية، ولكنه يسهم في تكريس واستمرارية ( اللاحرب واللاسلم) وهذا ما تبحث عنه إيران في ظل تفاقم أزماتها الداخلية.

لبنان، صاحب المصلحة الحقيقية من مسألة ترسيم الحدود، ربما وجد أن الحالة الأمثل للتعاطي مع المصالح الدولية هو الاستثمار في فضائها، طالما يصعب أن يكون الصانع الأساسي لهذا الفضاء، ولعل رغبة التيار ( العوني) في تسجيل مُنجز في الأيام الأخيرة من الحكم لن يكون أمراً باطلاً، بل ربما يتعزز هذا المنجز – وفقاً لتيار عون – إذا استطاع موفد الرئاسة اللبنانية (إلياس بو صعب) إقناع دولتي قطر والإمارات بمسألة الاستثمار في لبنان والشروع بعمليات تنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، فهل يكون لبنان حينئذٍ قد دخل في مصاف الدول النفطية؟ ربما يعتقد العونيون ذلك!

لعل ما لم يتوقعه الرئيس عون في نهاية مدّة ولايته هو أن يوصد نظام الأسد أبوابه في وجه الوفد اللبناني المكلّف بالتفاوض بهدف ترسيم الحدود مع سورية، ولعل الأكثر غرابة أن إجراءات ترسيم الحدود بين دمشق وبيروت لا تنطوي على خلاف سياسي سابق وإنما هي إجراءات لا تخرج عن الحيّز التقني والقانوني، فضلاً عن أن ميشال عون مدين بوجوده في قصر بعبدا طيلة سنوات ست إلى رعاية ومباركة كبيرة من نظام الأسد وحزب الله، فما الذي دفع الأسد إلى عدم استقبال الوفد اللبناني، وبالتالي إلى تأجيل الموضوع كلّياً في الظرف الراهن؟

لقد امتنع الأسد (الأب) عن البحث مع الجانب اللبناني حول فكرة ترسيم الحدود خلال إحكام سطوته الأمنية على لبنان طيلة عقود من الزمن، لأنه لم تكن له مصلحة بالتفريط بورقة هو ليس بحاجتها أصلاً، طالما أن لبنان لم يخرج عن القرار السوري، لا سياسياً ولا أمنياً، وقد استمر الأسد (الابن) بادخار هذه الورقة التي لم تكن ثمة حاجة إليها أيضاً، طالما أن الرئاسات اللبنانية ظلت مرهونة لإرادات محور (المقاومة) المتمثل بنظام دمشق وإيران وذراعها المتمثل بحزب الله. وبانتهاء ولاية ميشال عون يجد نظام الأسد أن الاحتفاظ بتلك الورقة قد يكون أجدى من إهدائها إلى رئيس انتهت ولايته ولم يعد فاعلاً، بل ربما كانت الحاجة إليها في المستقبل أمراً أولى بالتفكير.