الطريق- باسل معراوي
لم يكن يتوقع أكثر المتشائمين أن لا يتم التوصل لاتفاق نووي جديد بين الولايات المتحدة وإيران، بعد فوز الحزب الديمقراطي والرئيس بايدن بولاية رئاسية لأربع سنوات.
كان الزخم الذي بدا به الرئيس بايدن قوياً من بداية حملته الانتخابية، وشعارها التخلص من إرث ترامب والترامبية عموماً.
وبدا فوز الرئيس بايدن بالسباق الانتخابي وكأنه فوز إيراني؛ إذ اعتقد الجميع أنَّ ولاية ثالثة للرئيس أوباما قد بدأت.
وممَّا عزز ذلك الاعتقاد أو الوهم؛ أنَّ الرئيس الجديد قد استعان بمعظم مسؤولي الملف النووي في عهد الرئيس السابق أوباما، وعينهم بعد ترفيع أغلبهم إلى درجة وظيفية أعلى، كمسؤولين عن إدارة الملف النووي مع إيران.
وبدأت خطوات الرئيس الأمريكي توحي بأنَّ كلَّ سياسته الشرق أوسطية مبنية على أساس الوصول للاتفاق مع إيران، وتخفيف الوجود والاهتمام الأمريكي بالمنطقة، والتفرغ لمواجهة الأعداء أو المنافسين الكبار، وهما: الصين وروسيا.
ولم يكن الحديث عن توقيع الاتفاق من عدمه، بل عن المدة التي ستستغرقها المفاوضات للوصول إلى ذلك، وكانت كل الترجيحات تصب في خانة الانتهاء من الاتفاق قبل انتهاء ولاية الرئيس (الإصلاحي) روحاني، ووزير خارجيته ظريف، وهما الثنائي الإيراني اللذان وقّعا اتفاقاً عام 2015 مع الإدارة الديمقراطية الثانية للرئيس أوباما.
تمَّ إنجاز 90 بالمئة من الاتفاق ببنوده التقنية، وبدا التعثر يُظهر ـ ابتداءً من بداية الجلسة الخامسة للمفاوضات ـ أنَّ الاتفاق يصل إلى طريق مسدود عند فرض الأمريكان شروطهم غير القابلة للتفاوض؛ المتعلقة بملف التمدد الإقليمي وزعزعة استقرار دول الجوار، وبملف الصواريخ البالستية والطيران المسير، وربطوا ذلك بتوقيع الاتفاق النووي، وتم رفض ذلك من إيران بشدة. وانتهت ولاية روحاني، ثمَّ استلم إبراهيم رئيسي السلطة؛ وهو الرئيس المحافظ الذي يمثل الجيل الثاني من الثورة الإيرانية، والتي بطلها هو الحرس الثوري الإيراني..وساهم تعيين "رئيسي" لحكومته ـ التي تضم ثمانية من المعاقبين دولياً وأمريكياً ـ في فشل أو توقع استحالة التوصل للاتفاق، وبالتالي عدم عقد الجلسة السادسة للمفاوضات بفيينا، والتوجه بدل ذلك إلى التصعيد.
كانت العصا الإيرانية لا تهدأ في المنطقة وتتحرَّش بالجميع في البر والبحر...وبدا للبعض أن لاشيء يقدَّم لإيران ليثنيها عن متابعة أنشطتها الإقليمية؛ فكانت الضربات تنهال على السعودية وأربيل والقواعد الأمريكية وإسرائيل، عبر خروج حرب الناقلات للعلن والاعتداء على ناقلة النفط الإسرائيلية وتهديد الملاحة عبر الخليج عموماً، قبل مضيق هرمز وبعده.
ازداد الإيرانيون شراسةً في ظل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ووضع نهاية للتواجد الأمريكي في العراق ينتهي بآخر العام الجاري..وانقضاء الهدنة التي أعقبت اغتيال "قاسم سليماني" و"أبو مهدي المهندس" بتولي مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزارة العراقية، وتوقع تمخض الانتخابات القادمة عن رئيس وزراء من المرتبطين بإيران؛ كنوري المالكي أو من يشابهه.
كان على دول المنطقة مسك العصا الإيرانية من المنتصف على أمل عدم تلقي الضربات منها، ومحاولة تحييدها أو بمعنى عدم خلق عداوات جديدة. وتبيَّن أنَّ الاستراتيجية الأمريكية هي الاستمرار بالعقوبات المؤلمة لإيران مع ضربات انتقائية محدودة..وخلق بؤر الاعتراضات الإيرانية الشعبية بالداخل وتشجيعها عبر مجاهدي خلق، وفتح الثقب الأسود الأفغاني الطالباني الذي قد تدفع محاولة التصدي له أو التقليل من تداعياته إلى رضوخ إيران للقبول ببحث الملف الإقليمي بالمنطقة العربية؛ بغيةَ التفرغ للخطر القادم من الشرق.
ما كان من دول المنطقة إلّا أن تتصرَّف منفردة أو بشكل جماعي لتفادي التوحش والشر الإيراني.
بدأت المملكة العربية السعودية بدبلوماسية واقعية بفتح اتصالات أمنية مع إيران في بغداد، سيعقبها لقاءات سياسية في عمان...ولا يخرج مؤتمر بغداد الأخير للتعاون والشراكة عن هذا الإطار؛ حيث حاول جميع الحاضرين التصرف كجهة واحدة مقابل إيران كزعيمة محور أمر واقع، ولكن دون الاعتراف به..
أكثر من يتعرض للتهديد طبعاً هو إقليم كردستان العراق، ولم يخفِ نوري المالكي وصفَه لاستفتاء أربيل بتقرير المصير بأنه محاولة إنشاء إسرائيل ثانية تهدد محور التشيع في المنطقة؛ حيث تم عدم تنفيذ اتفاق سنجار وخسارة الإقليم لكركوك وإيقاف المحادثات بشأن المناطق المتنازع عليها بين أربيل وبغداد.. ممكن لأي اندفاعة للحشد الشعبي لاحتلال الإقليم أن تحدث تحت دعاوى عديدة وخلافات بين المركز والأطراف.. وهنا، يرى البعض زيارة ماكرون بعد قمة بغداد لأربيل والموصل وقوله إنَّ فرنسا باقية بالعراق؛ هي "مسك عصا من الوسط" لأي جموح إيراني متهور باجتياح الإقليم.. وممكن أن تتطور الأوضاع لاعتراف دولي بحدود الإقليم كدولة مستقلة لحمايتها من الاحتلال.
الخوف الأردني ليس من الحوثي الذي يتم عبره الاعتداء على السعودية، إنَّما من النظام السوري وحزب الله والحشد الشعبي العراقي.
يمسك الملك الهاشمي العصا الإيرانية من الوسط عبر دعواته لاعتبار أنَّ " النظام السوري باقٍ وهو أمر واقع ويتوجب علينا التعامل معه"، وتسويق ذلك بزياراته لواشنطن وموسكو..وحماسه لكلِّ المشاريع المرتبطة بإيران أو أذرعها، عبر انخراطه بمحور الشام الجديد ومرور خط الغاز العربي والكهرباء الأردنية إلى لبنان ..وتُقرَأ بنفس السياق أيضا زيارته لضريح جعفر الطيار بالكرك موقع غزوة مؤتة، باعتباره من آل البيت الهاشمي، وأخيراً إرسال رئيس مجلس النواب الأردني برفقة 18 نائباً أردنياً إلى بغداد لزيارة "حسن نصر الله العراق: قيس الخزعلي" وهو زعيم جماعة دينية مسلحة صلبة، جهادية عابرة للحدود، ولا دولتية، وعدم ذهابه للقاء نظيرة العراقي الحلبوشي.
يمكن أن يكون النهج الأمريكي الذي يتبعه الديمقراطيون عادة، المتجسِّد بالاعتماد على قوة الدبلوماسية وليس دبلوماسية القوة، هو السبب المباشر عن انتهاج دول الإقليم هذا النهج..
وباعتقادي أنَّ الأيام القادمة ستشهد المزيد من التصعيد الإيراني مقابل محاولة امتصاصه والتعامل معه، إلّا إذا حدث أمرٌ غير متوقع يخلط الأوراق ويغير المعادلات.