إياد الجعفري
في أقل من أسبوع، وكأن نبوءة معهد أبحاث الأمن القومي، في تل أبيب، تتحقق، أو أنها كانت قراءةً موفقةً لما ينتظر الكيان الإسرائيلي على جبهته الشمالية. فحزب الله ذهب خطوةً جديدةً في ترسيخ معادلة "إقلاق الراحة" والتلويح المتصاعد بالتهديد الأمني المستجد، في الجليل.
لا نتحدث هنا عن جولة التصعيد التي حدثت يوم الجمعة، فتلك كانت لزوم تدعيم حالة الردع من جانب حزب الله حيال الغارات الإسرائيلية الجوية، التي كانت الأولى من نوعها منذ 15 عاماً. بل نتحدث عن تلك الصواريخ مجهولة المصدر، التي سقط اثنان منها شمالي الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي نفى الحزب مسؤوليته عنها، وكانت السبب في جولة التصعيد الأخيرة، على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
فهذه ثاني حالة إطلاق صواريخ خلال أسبوعين، والخامسة خلال شهرين ونصف. وعدم قيام حزب الله بفعل جاد لضبط نشاط الجهات التي يُعتقد أنها فلسطينية، والتي تقف وراء إطلاق الصواريخ، يثبت أنه راضٍ عن إطلاقها. فهي تندرج ضمن معادلة جديدة تريد إيران فرضها على الحدود الإسرائيلية الشمالية، وفق تقرير معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، الذي قُدم للرئيس الإسرائيلي، قبل أسبوع فقط، ودعا معدّوه إلى مواجهة محاولات حزب الله وإيران وحماس، لترسيخ "معادلة ردع" جديدة ضد إسرائيل، تشمل إطلاق قذائف صاروخية تجاهها من لبنان وسوريا.
وإن كانت ترتيبات هذه المعادلة لم تمتد بعد إلى الجبهة السورية، التي تحاول إيران جاهدةً، هذه الأيام، أن ترسخ نفوذها فيها، عبر أزمة "درعا البلد"، فإن حالات إطلاق الصواريخ الخمسة، من الجبهة اللبنانية، خلال الأسابيع الأخيرة، تثبت إصرار أدوات إيران في لبنان، على ترسيخ تلك المعادلة بالفعل هناك.
ردّ الفعل الإسرائيلي العنيف نسبياً، عبر غارات جوية هي الأولى منذ 2006، واستهداف "بنى تحتية"، في تلويح بتجربة تدمير "الضاحية" جنوب بيروت قبل 15 عاماً، لم يردع حزب الله، الذي فاجئ الإسرائيليين برد فعلٍ متماثل، وإن كان مدروساً للغاية، بحيث استهدف أماكن غير مأهولة، في منطقة متنازع عليها (مزارع شبعا). لكن الرسالة من رد حزب الله، واضحة. "لن نفعل شيئاً لوقف صليات الصواريخ المنفلتة، التي تنطلق من حين لآخر تجاه الجليل".
إصرار أدوات إيران في لبنان على ترسيخ معادلة "إقلاق الراحة" عبر صواريخ محدودة الأثر، لكنها قادرة على التذكير دوماً بأن الأمن بشمال الكيان الإسرائيلي مخترق، يتزامن مع التصعيد الدبلوماسي الإسرائيلي بغية استغلال الخطأ الإيراني بتحقيق إصابة مميتة أثناء استهداف ناقلة النفط أم تي ميرسر ستريت، قبل أسبوع. ورغم محاولة إيران الدفع نحو المزيد من خلط الأوراق، عبر محاولة اختطاف سفينة "اسفلت برينسس"، والتلويح بتعطيل مسار التجارة الدولية عبر مضيق هرمز وخليج عُمان، يبقى أن خلط الأوراق، في جبهة شمال الكيان الإسرائيلي، أداة ضاغطة بصورة أكبر، إذ أنها تستهدف الأمن القومي الإسرائيلي بشكل مباشر.
وهكذا يمكن أن نفهم مسارعة إسرائيل إلى توجيه "رسالة تهدئة" بعد التصعيد الأمني يوم الجمعة، وفق ما قالت هيئة البث الإسرائيلية. والتي أضافت في تعبير يختصر المشهد برمته، إن الجيش الإسرائيلي "أكد أنه لا يذهب إلى تصعيد الأوضاع أو خوض حرب"، موضحاً أنه ليس بصدد جعل لبنان "خط مواجهة".
وبطبيعة الحال، لا يسعى حزب الله بدوره، إلى حرب كبرى، لكنه يسعى دون شك، إلى ترسيخ التهديد الأمني المحدود، المتمثل بإطلاق صليات من الصواريخ محدودة الأثر، من حين لآخر نحو شمال الكيان الإسرائيلي. وربما، لا يكون هو المنفّذ لهذه الهجمات، لكنها تتم بضوء أخضر منه، ولا يمكن تصور خلاف ذلك. ورغم أن بعض المحللين الإسرائيليين، ناقشوا بجدية، نظرية أن تنظيمات فلسطينية تستغل "الفوضى" في لبنان، وتطلق تلك الصواريخ، إلا أن عدم تحرك حزب الله بصورة جادة لضبط هذه "الفوضى"، يثبت رغبته في استثمارها، حتى لو لم يكن من يضغط زناد تلك الصواريخ.
باختصار، فإن حزب الله قرر التخلي جزئياً عن مهمة ضمان أمن "إسرائيل"، عبر الحدود اللبنانية. وهي المهمة التي أقرّها الحزب ضمنياً، منذ العام 2006. وقد تنسحب تلك المعادلة قريباً على الجبهة السورية، إن تمكنت إيران من ترسيخ تواجد أدواتها قرب حدود هضبة الجولان المحتل. وهو مسعىً لا يبدو أن روسيا تعرقله بجدّية، حتى الآن. وهكذا، يصبح الهاجس "الإسرائيلي" القديم بأن تصبح جبهتا الجولان، وجنوب لبنان، ورقتَي لعبٍ إيرانيتين، آخذ في التحقق بتسارعٍ غير متوقع. وقد يكون الثمن المطلوب للعودة إلى ترتيبات الاستقرار الأمني التي تحصّلت عليها "إسرائيل" عام 2006، هي أن تتوقف عن عرقلة مساعي إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وأن تضع حداً لحرب الناقلات مع خصمها الإيراني. فالرئيس الإيراني المُنصّب حديثاً، وضع نصب عينيه رفع العقوبات الغربية عن بلاده، وفقما قال للإيرانيين، لكن بالاستناد إلى ترتيبات لا تنال مما حققته إيران من مكاسب على الصعيد الإقليمي.
وتبقى الخيارات محدودة للغاية أمام الإسرائيليين، الذين ارتضوا في وقتٍ من الأوقات، إبقاء بشار الأسد، حليف إيران، على كرسي الحكم، بعيد العام 2011، في رهانٍ على أنه الأفضل لأمن إسرائيل. ليكتشفوا أن أمنهم بات ورقة ابتزاز إيرانية، ستكون مطروحة، وإن بصورة غير مباشرة، بالتزامن مع الانعقاد السابع المرتقب لطاولة المفاوضات النووية، بفيينا.