إياد الجعفري
يشكّل رحيل شيخ المعارضين السوريين، رياض الترك، مناسبةً للوقوف مطوّلاً عند سؤال لم تتم معالجته في معظم ما كُتب في رثاء "ابن العم". فمسيرة نضال الرجل الملقّب بـ "مانديلا سوريا"، والتي تجاوزت ستة عقود من السعي الحثيث والمُكلّف للغاية على الصعيد الشخصي، لم تُكلّل بتحقيق هدفها الأسمى، وهو رؤية حكم أكثر رشداً لهذا البلد. بل على العكس، فقد قضى الترك سنواته الأخيرة في منفاه الاضطراري بفرنسا، يرقب من هناك حالة سوريا، التي أصبح كيانها السياسي أكثر اهتراءً، ونظامها الحاكم في دمشق، أكثر شراسةً وفظاظةً، وفساداً وأقلويّة.
وفيما تتشابه كثير من محطات حياة الترك مع محطات حياة صاحب اللقب الأصلي، نيلسون مانديلا -أيقونة تجربة الانتقال إلى الديمقراطية في جنوب إفريقيا- تختلف خاتمة مسيرة الأول، السياسية، عن خاتمة مسيرة الثاني، التي انتهت إلى نقلة أشبه بالمعجزة، أنهت جانباً كبيراً من تراث واحدٍ من أعتى الأنظمة الديكتاتورية الأقلويّة، في التاريخ – نظام الفصل العنصري-، والذي دام نحو خمسة عقود. فما الفارق بين التجربتين؟
للجواب شقان. الأول، يتيح لنا كسوريين، التخفّف من حالة جلد الذات، وتحميل أنفسنا وكياناتنا وتنظيماتنا السياسية، كامل المسؤولية عن الوضع الراهن. فالداعم الخارجي لنظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا، في القرن الفائت، كان الغرب. بصورة أساسية، الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. وهو داعم يتأثر بالرأي العام في بلده، ولا يستطيع تجاهل أفعال أنظمة حكم وحشية حليفة له، بصورة مطلقة ودائمة. كما أن انعتاق الأفارقة في ذاك البلد من نيّر الحكم العنصري، جاء بالتزامن مع نضوج الظروف الدولية، متمثلةً بانتهاء الحرب الباردة، وزوال أثر شبهة الشيوعية التي لاحقت المناضلين الأفارقة والتي كانت ذريعة قادة دول الغرب في تجاهل مأساة أغلبية السكان في جنوب إفريقيا. ولا توجد ظروف خارجية مماثلة في الحالة السورية الآن. فالداعم الخارجي مختلف، ويشابه النظام الأسدي ذاته، في ميله نحو الديكتاتورية والسلطوية. في حين الظرف الدولي ينحو أكثر فأكثر، نحو حالة أقرب للصراع البارد بين معسكرين، مما يعزّز من قيمة النظام لدى داعميه الخارجيين.
لكن الشق الثاني من الجواب، يحيلنا إلى أبرز مشكلات التفكير السياسي في تجربتنا كسوريين. والمتمثّلة بعدم الواقعية. تلك التي تنتج عن تأثير القمع ووحشيته، فتخلق لاوعياً يقوم على عقلية الغلَبة، كانعكاس لعقلية مرتكبي القمع، أنفسهم. تلك العقلية التي تؤدي إلى إطالة أمد الصراع، وأثمانه. ومجدداً، كي لا ننحو إلى مسارٍ معتاد من جلد الذات، يجب الإشارة إلى أن تشكّل هذا اللاوعي، وتلك العقلية، نتيجة طبيعية. وكانت ملحوظة في تجربة المناضلين الأفارقة بجنوب إفريقيا أيضاً. والذين خاضوا كل أشكال النضال، ووقعوا في كل مثالبه، على مدار أكثر من عقدين ونصف. ونيلسون مانديلا ذاته، تقلّب بين المواقف والآراء والتجارب، حتى نضجت خبرته، وراء قضبان السجن، في أواسط السبعينيات. فالرجل الذي عارض بدايةً الجمع بين نضال الأفارقة ونضال الهنود والشيوعيين والملونيين، ووقف ضد أي نشاط سياسي وميداني لا يكون بقيادة تياره السياسي، هو ذاته، الذي ألح لاحقاً على جمع كل ألوان الطيف السياسي والمجتمعي، الجنوب إفريقي، في مسار مشترك. وفي حين بدأ مسيرته مراهناً على اللاعنف كوسيلة للنضال، قبل أن ينعطف بصورة دراماتيكية إلى العنف المسلح بتأثير صدمة عنف السلطة، تحوّل في نهاية المطاف إلى سياسي رشيد، أتقن استخدام العنف كأداة مضبوطة، تخدم السياسة، التي فهِم بعد عقودٍ من النضال، أنها فن الممكن، فتفاوض مع قادة نظام الفصل العنصري، ومع مختلف الأفرقاء داخل ألوان الطيف المعارض، وتحوّل إلى كاريزما، أدركت كيف تجمع، بدلاً من أن تبحث عن سبل للتفرّد بأوراق اللعبة السياسية.
في تجربة "مانديلا سوريا"، كثير من اللمحات المشابهة لتلك التي ميّزت تجربة "مانديلا جنوب إفريقيا". لكنها افتقدت سمات نضج أخرى. فـ رياض الترك الذي اشتُهر بمعارضته الشرسة للتفاوض مع النظام الأسدي، أتقن استخدام هذه المعارضة في محطات، لم يكن النظام فيها مؤهلاً لتقديم أي تنازلات، كما حدث في السبعينيات، لكنه أساء استخدامها -إن صح ما أُشيع عن معارضته للتفاوض- مع انضمام تياره السياسي للمجلس الوطني السوري المعارض، بعيد العام 2011، حينما كان النظام في واحدة من أضعف لحظات تسلطه على السوريين، وأكثرها ضبابية بالنسبة لمصيره.
مراجعة تجارب الانتقال إلى الديمقراطية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، تحيلنا جميعها إلى سمات مشتركة أبرزها، أن تفكيك أنظمة الحكم الديكتاتورية لا تتم دفعةً واحدةً، بل بالتدريج
وكي لا نبخس الرجل حقه، كان رياض الترك ناضجاً على صعيد نسج الشراكات مع قوى المعارضة القائمة على أرض الواقع. وتلك إحدى أبرز الانتقادات الموجهة له من جانب ثلة واسعة من المنظّرين المعارضين، الذين يعتبرون شراكته مع الأخوان المسلمين عام 2005، ومن ثم بعد العام 2011، سقطة، في مسار تجربته السياسية. وتلك الإشارة إلى قوى الأمر الواقع، تحيلنا إلى سمة عدم النضج وعدم الواقعية، التي ما تزال تسم معظم النقاشات السياسية في أوساطنا كسوريين.
فمراجعة تجارب الانتقال إلى الديمقراطية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، تحيلنا جميعها إلى سمات مشتركة أبرزها، أن تفكيك أنظمة الحكم الديكتاتورية لا تتم دفعةً واحدةً، بل بالتدريج. وأن التفاوض والحوار هو المدخل لتحقيق ذلك. فالعنف، والتظاهر، والعصيان، واستخدام السلاح،.. إلخ، كلها وسائل وأدوات تقود في نهاية المطاف إلى عملية سياسية، تقود تدريجياً – عبر سنواتٍ وأحياناً، عبر عقود- إلى تغيير الواقع بشكل مستدام. ولم يسبق أن أدت تلك الأدوات إلى خلق واقع جديد مستدام، بصورة مباشرة، إلا في خضّات سرعان ما تعكس مسارها، وتنتكس، كما حدث في بلدان عربية (تونس مثلاً).
في الحالة السورية، لا يعني التفاوض والحوار مع قوى الأمر الواقع، استسلاماً لما تريد، أو قبولاً بأجنداتها، كما هي. لكن حينما تعرض تلك القوى التفاوض والحوار، ويكون لدى الطرف الآخر أوراق قوة، فيجب استثمارها، لتحسين الواقع، ذاته، الذي من أجله يرفض الرافضون أي حوار أو تفاوض. بكلمات أخرى، نقول ما قاله سميح شقير، "لا تُعدِموا السياسة".
المصدر: تلفزيون سوريا