الطريق-إياد الجعفري
كان لافتاً، كيف تغيّرت معالجة إعلام النظام لفزعة العشائر في دير الزور، خلال الأيام العشرة الفائتة، وصولاً إلى خواتيمها الحالية. ففي بداية الأحداث، ارتفع رهان النظام على الحراك العشائري، معتبراً أنه سيصب في صالحه. بل وبدا أنه بصدد دعمه جزئياً، إذ قالت مصادر إعلامية مقرّبة منه، إنه تم تجهيز مجموعات مقاتلة تتبع لـ "فراس الجهام"، أحد قادة ميليشيات الدفاع الوطني، على الضفة الغربية للفرات، وأخرى تتبع لميليشيا "أسود العشائر"، التي يقودها نواف البشير، المقرّب من الإيرانيين، بغرض تقديم الدعم لحراك العشائر المسلّح على الضفة الشرقية.
وقد تحولت صحيفة "الوطن"، الناطق شبه الرسمي باسم النظام، إلى منصّة لـ نواف البشير، والذي قدّمته بوصفه "شيخ قبيلة البكارة"، ليؤكد على أن الأيام القليلة القادمة ستشهد تطهيراً كاملاً لريف دير الزور من "أكراد جبل قنديل". مُبشّراً باستعادة نفط وغاز وقمح وقطن دير الزور الغنية، التي وصفها بـ "سورية المفيدة". وفي تصريحاته للـ "الوطن"، في 30 آب/أغسطس المنصرم، قلّل البشير من قيمة البيانات التي أصدرتها بعض العشائر ودعت فيها للحوار مع قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، واصفاً إياهم بـ "بعض الشخصيات الهزيلة التي تسمي نفسها شيوخاً.."، مشدداً على أن "مشروع العشائر العربية هو مشروع وطني بحت ولن يقبلوا بوجود الاحتلال الأميركي وأدواته أبداً".
وبعد أربعة أيام فقط، تحدث نواف البشير مجدداً عبر "الوطن"، لكن هذه المرة بنبرة أقل تفاؤلاً، وبنبضٍ أقل حماساً، ليقول إن "أميركا تراقب وسوف تضع يدها مع المنتصر، وهي دائماً لديها مشاريع وأجندات وما تخطط له بما يسمى (الحزام العشائري)، سيسقط بكل تأكيد".
تزامن هذا التغيّر في نبرة البشير ودرجة حماسته، مع تغيّر في تغطية إعلام النظام، وتوصيفات منظّريه للحراك، الذي لم يعد "مقاومة شعبية"، ولم يكن "ثورة كرمال البلد"، محذرين من أن أمريكا قد "تمتطي" ظهره. وهو ما عبّر عن خيبة أمل النظام من موقف معظم العشائر على الضفة الأخرى، والتي تدرجت بين الحليف لـ "قسد"، وبين المحايد والداعي لحقن الدماء ووقف إطلاق النار، وبين المنخرط في الحراك المسلح. وهذا الفريق الأخير أكد أكثر من ناطق باسمه، عدم ارتباطه بالنظام أو إيران، وأن الطرفين الأخيرين، يحاولان الاصطياد بالماء العكر. وهو الفريق الذي مثّله الشيخ مصعب الهفل في مفاوضات مع الأمريكيين في العاصمة القطرية الدوحة. كما أن شقيقه الشيخ إبراهيم الهفل، الذي قاد الحراك على الأرض، وجّه رسائله للحوار مع التحالف الدولي بقيادة أمريكا.
وفيما كانت "قسد" تتهم النظام والإيرانيين بتحريك "الاضطرابات" في دير الزور، كانت المعلومات المتوافرة عن "إمداد" النظام للعشائر بالدعم، سواء بالرجال أو بالذخيرة، شحيحة أو معدومة. وفي حين كانت فصائل وعشائر شمال حلب تشن هجوماً شرساً على جبهة منبج، بكامل العتاد الممكن استخدامه، بصورة دفعت الطيران الروسي للانخراط في المعركة دعماً لقوات "قسد" والنظام، المتحالفة معاً، على تلك الجبهة، كان مقاتلو العشائر في دير الزور يعانون من نقص الذخيرة ويقاتلون بأسلحة فردية، ويتعرضون للتراجع أمام هجمات "قسد" المدعّمة بالعتاد والذخيرة، فيما كان النظام والإيرانيون القريبون للغاية منهم، على الضفة الأخرى، يتفرجون، دون وجود أي معلومات عن دعم حقيقي لتلك العشائر، التي يُعتقد أنها انكفأت في ذيبان، والبلدات الرئيسية التي كانت تقاوم فيها.
فلماذا لم يقدّم النظام والإيرانيون دعماً حقيقياً للعشائر، على الضفة الشرقية من الفرات؟ ولماذا تغيّرت نبرة النظام وإعلامه، حيال توصيف الحراك العشائري بين بدايته، ومراحله الأخيرة؟
يبدو الجواب جلياً، فالعشائر المنتفضة لم تكن مستعدة مطلقاً لاستبدال "قسد" والأمريكيين، بالنظام وحليفه الإيراني. وإن كان الاختيار هنا بين سيِّئ وأسوأ، فدون شك، النظام والإيرانيون هم الأسوأ. ورغم التدهور المعيشي والخدمي في ريف دير الزور الخاضع لسيطرة "قسد" المدعومة أمريكياً، يبقى أن الوضع هناك أفضل بمرات من الوضع على الضفة الأخرى. وكمثال معبّر عن ذلك، فإن الحد الأدنى لأجور العاملين في المؤسسات التي تديرها "قسد"، هو خمسة أضعاف الحد الأدنى للرواتب في مناطق سيطرة النظام. لذا فإن الخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذه التجربة، أن أي حراك شعبي أو مسلح في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لا يمكن أن يصب في مصلحة النظام؛ لأن شياطين تلك المناطق ملائكة، مقارنة بشيطان النظام. والخلاصة الثانية اللاحقة لها، أن حراك العشائر الذي لطالما راهن عليه النظام، بوصفه الأداة التي سيتمكن بواسطتها من استعادة نفط الجزيرة وحبوبها، لن يحقق له هذا الغرض مطلقاً.
أمَّا في المستقبل القريب، فيمكن لبعض العقول على ضفة النظام، الرهان على تدهور أكبر لعلاقة سكان دير الزور العرب مع حاكميهم من "قسد" التي يغلب على قيادتها، المكوّن الكردي. بانتظار اللحظة السانحة لاقتناصها. لكن ذلك مشروط بعدم سعي واشنطن لخلق توازن في علاقتها بين المكوّن الكردي ونظيره العربي، في الجزيرة السورية. وهو أمر مستبعد، بعد تجربة الحراك العشائري الأخير. إذ من المرجح أن الأمريكيين سيعملون على إيجاد حلول لحالة التأزم في العلاقة بين المكوّنين، باتجاه توازن أكبر في النفوذ والسيطرة بينهما. وهو ما يعني أن "سورية المفيدة"، وفق وصف نواف البشير، ستبقى عصيّة على قبضة النظام.