الطريق- د.باسل معراوي
كما هو معروف، أنه في عام 1945 ـ وكان قد مر 31 عاماً على بداية الحرب العالمية الأولى ــ خرجت أوربا وبقية دول العالم من الحرب العالمية الثانية بمئة مليون قتيل، وزالت عن الوجود خمس إمبراطوريات كبرى، وكانت قد شاركت في الحربين 18 دولة تحطمت كلها وخرجت الولايات المتحدة سليمة، وكان السؤال الكبير: من العدو الآن ؟
لم تتأخر الإجابة عن هذا السؤال، فقد أعلن الرئيس الروسي جوزيف ستالين في عيد العمال عام 1946 ..انفضاض التحالف ضدَّ النازية ..وحمَّل النظام الرسمالي مسؤولية الحروب والكوارث في العالم، وأنه قد آن الأوان بأن تسود الشيوعية العالم؛ ومن أجل ذلك يجب القضاء على الرأسمالية...
هنا التفّت الدول الرأسمالية حول الولايات المتحدة، وتم تشكيل حلف الناتو وصياغة نظام دولي جديد استمر حتى سقوط الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، ولايزال موجوداً رغم بعض الاهتراء والتآكل الذي أصابه؛ جراء الغفوة الاستراتيجية الأمريكية بعد النصر الكبير على الشيوعية العالمية، وبروز تحديات كبرى أمامها تتجلى بصعود الصين الصاروخي، وبعض مظاهر التعافي الروسية، وبظلهما إيران ..كتهديد للنظام الدولي القائم.
تمَّ تأسيس النظام الدولي الجديد ذي الأبعاد السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، في مؤتمر عقد في " بريتون وودز" 1954..حيث قدمت الولايات المتحدة للدول الخارجة من الحرب عرضين رئيسيين:
1-تعهدت الولايات المتحدة لحلفائها بضمان حرية التجارة، والوصول لمكامن المواد الأولية والأسواق لتصريف منتجاتها بضمان البحرية الأمريكية الأقوى في العالم...ودون حاجتها لبناء أساطيل لضمان ذلك.
2-التعهد من الدول الحليفة بأن تعتمد الدولار كعملة عالمية للتبادل التجاري، والمشاركة بالجهود لمحاربة الشيوعية.
لم يجرؤ أحد من الدول المنافسة ولا من القراصنة المنتشرين عبر البحار، على التعدي على سلامة النقل البحري..
تجرأت إيران على ذلك، في صيف 1988 عندما تمادت بحرب الناقلات في الخليج؛ فقامت البحرية الأمريكية خلال 36 ساعة بتدمير القوى البحرية الإيرانية، وهو السبب الرئيسي لوقف حرب الثمان سنوات مع العراق، وتجرع الخميني كأس السم.
منذ سنوات خلت، كانت حرب بحرية صامتة تجري بين إيران وإسرائيل، وبلغت العمليات العسكرية الإسرائيلية من عام 2018 لغاية عام 2021 أكثر من 18 استهدافاً لقطع بحرية إيرانية، أغلبها لم يتم الإعلان عنه من قبل الطرفين.
ما أسباب تصاعد حرب الناقلات في الخليج الآن؟
يمكن إرجاع تلك الأسباب إلى تحقيق غايتين تسعى لهما إيران:
1-انسداد أفق إعادة إحياء الاتفاق النووي بين 5+1 وإيران، وعدم نجاح سياسة إيران القائمة على استراتيجية: "التفاوض على مالا تملك..مقابل الحصول على ما تريد".
فهي لم تملك بعد القنبلة النووية، وتفاوض على عدم امتلاكها مقابل عدم أي تدخل دولي بملفيها الشائكين؛ ملف زعزعة الاستقرار الإقليمي عبر أذرعها، وملفها الصاروخي وتطوير سلاح الطيران المسيّر وإخضاعه للرقابة..
بعد التصعيد الإيراني الأخير والخطير باستهداف ناقلة النفط الإسرائيلية في خليج عمان مقابل ميناء الفجيرة، الذي تسبب بمقتل اثنين من الطاقم أحدهما إنكليزي والآخر روماني عبر درون إيرانية...وخوفاً من رد إسرائيلي قوي عالجت إيران الأزمة بافتعال أزمة أخرى للتغطية عليها؛ حيث أقدم قراصنة إيرانيون بالصعود إلى سفينة تجارية بريطانية والسيطرة عليها لمدة 7 ساعات، وهروبهم منها إثر قيام القبطان بإطفاء المحركات وملاحقة السفن الأمريكية لها...
تهديد الملاحة هذا ضغط على أمريكا وحلفائها للتخلي عن بحث أي ملف غير الملف النووي..
تقدمت بريطانيا بشكوى لمجلس الأمن، وصرَّح انتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي أنَّ الأمر لن يتم دون عقاب...ويتم العمل على بناء جو دولي يمهد لشن ضربات نوعية على مقدرات تصنيع وإطلاق الطائرات المسيّرة الإيرانية...
2-كانت إيران تمنّي النفس بتخفيف الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط عموماً والخليج العربي خصوصاً، وقد بدرت إشارات أمريكية مهمَّة تدل على ذلك، وتوجَّه الجهد الاستراتيجي الأمريكي لبحر الصين وصراعها هناك.
وقد عرضت إيران كالعادة على دول الخليج العربية عقد اتفاقيات أمنية بما تسميه معاهدة الأمن الجماعي ..ما أفسد الجو عليها موجة التطبيع العربية الثانية مع إسرائيل، والتي توجت بتوقيع دولة الإمارات العربية والبحرين على اتفاقيات سلام مع إسرائيل ..وإدخال الولايات المتحدة إسرائيل إلى صلب القيادة المركزية العسكرية الأمريكية في منطقة عملها، أي في الخليج العربي. فباتت إسرائيل موجودة بشكل مباشر بالخليج العربي أمنيا وعسكرياً ..طبعاً تريد إيران إبعاد إسرائيل عن المنطقة عبر خلق متاعب لها، وخوفاً من موجة تطبيع خليجية ثالثة متوقعة قريباً، تبدأ بالكويت ثمَّ عمان. ويقال إن المملكة العربية السعودية تهدد إيران ــ في مفاوضاتهما التي جرت مؤخراً في بغداد وعمان ــ بأنَّها إذا لم تقم بتعديل سلوك حلفائها (وخاصة الحوثيين) فإنها قد تفكر بالتطبيع أيضاً...
البعض يرشح تونس للالتحاق بالموجة الثالثة أو الرابعة، وبذلك لا تبقى إلا ايران والدول التي تحتلها في حالة العداء مع إسرائيل (ومن يدعم اسرائيل).
يرى أغلب المراقبين أنَّ حكومة الرئيس المحافظ علي رئيسي الجديدة، لن ترعوي أو تتراجع عن مواقفها بحرب الناقلات، وليس أمامها خيار آخر، إلى أن تتلقى ضربة تقصم ظهرها.