الطريق _د. باسل معراوي
من بداية تأسيس مجلس التعاون الخليجي على يد آباء الزعماء الحاليين كمؤسسة أمنية اقتصادية، في عام 1981 بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، لم يحقق الآمال المرجوَّة منه، لكنه حافظ على الحد الأدنى لوظيفته، وكان طبيعياً أن يكون بقيادة المملكة العربية السعودية التي تشكل أراضيها 83% من مساحة شبه الجزيرة العربية، ولها حدود مشتركة مع الدول الخمس، إضافة لما تمتلكه من موقع ديني وثقل بشري واقتصادي...وكانت الدول الست متقاربة جداً بشكل وطبيعة الحكم وتشابه المجتمعات البشرية في كلٍّ منها، ويوجد امتداد لنفس القبيلة بأكثر من دولة ..وما ميز هذه الدول "الطبيعة القبليَّة الموجودة" والتي امتدت إلى تركيبة السلطة في الدولة...وكانت كل الخلافات البينية تُحل برعاية الشقيقة الكبرى. وكان للرخاء المادي ـ نتيجة الطفرة المادية بارتفاع أسعار النفط والذي أدَّى لريوع هائلة لمجتمعات قليلة العدد ـ أبلغ الأثر في المرور أو تجاوز الخلاف الذي ينجم بين تلك الدول.
كانت القاعدة "نختلف ولكن لا نفترق" هي الأساس الناظم للتحالف والتعاون الخليجي، علماً أنَّ الخلاف الذي ينشب بين دولتين ليس بمعادلة صفرية إنما يتم حله بالتراضي حتى لو وصل الأمر إلى محكمة العدل الدولية (كما حدث بالخلاف الحدودي بين قطر والبحرين)..وكانت سابقة غزو العراق للكويت سبباً لزيادة التعاون؛ بسبب المصير المشترك لتلك الدول، وإدراك أنَّ الصراع داخل الخليج لا يجوز خروجه للعلن أو لأبعاد أكبر؛ بسبب أنَّ الصراع المهم الدائر هو على الخليج نفسه..
من الناحية التقنية كانت أسباب الخلاف ـ والذي فاجأ الجميع ظهورُه للعلن بهذا الشكل وتداول ذلك عبر الإعلام ـ أنَّ منظمة اوك بلس (التي تضم دول اوبك الثلاث عشرة إضافة لعشر دول مصدِّرة للبترول من خارج المنظمة) والتي تقودها المملكة العربية السعودية والاتحاد الروسي..قد توصلتا لصيغة المحافظة على سقف الإنتاج العالمي والتزام كل دولة بحصتها؛ لأنَّ سعر 76 دولاراً اليوم للبرميل الواحد ترضي المنتجين والمستهلكين.. خاصة أنَّ الاقتصاد العالمي في بداية التعافي بعد جائحة كورونا، ويوجد خطر حدوث إغلاقات في عدد من الدول بسبب انتشار أنواع متحولة جديدة عن فيروس كورونا..
القاعدة المعتمدة عند الدول بتعيين الحصص المسموح تصديرها لكل دولة تعتمد على أرقام مخزونها ..إلا أنَّ " أبو ظبي" تسعى من فترة لاعتماد آلية جديدة، وهي أنَّ قدرة الدولة على كمية الإنتاج المتاحة للمخزون هي التي يجب أن تكون القاعدة الناظمة لتعيين الحصة المسموح بها لكل دولة.
وفي إحدى المراحل، كان مسموحاً للإمارات العربية تصديرُ ثلاثة ملايين وثمانمِئة ألف برميل باليوم...والحصة المقرَّرة لها بالاجتماع الأخير هي ثلاثةُ ملايين ومئتا ألف برميل باليوم..الأمر الذي لم توافق عليه.
وإذا لم يتم التوصل لتسوية قريبة فإنَّ هذا يشجع دولاً أخرى للانضمام للإمارات بموقفها، وقد يؤدي ذلك إلى انهيار المنظمة وحدوث فوضى أسعار يحكمها العرض والطلب، وقد يؤدي ذلك إلى انهيار في الأسعار يصل بالبرميل إلى 40$
يرى أغلب المراقبين أنَّ الخلاف السعودي الإماراتي ليس سببه تقنياً يتعلق بموقف الإمارات الأخير في اجتماع اوبك بلس، بل هو نتيجة لخلاف سياسي عميق بين الدولتين يمكن أن نلخصه بنقاط عدة:
كان فتور العلاقة بادياً بين الحليفين، في الرياض وأبو ظبي ..تجسد أخيراً بمنع الرحلات السعودية (البرية والجوية) إلى الإمارات، واستدعاء المقيمين السعوديين بالإمارات بحجة أنَّ الإمارات لم تكن شفافة بإعلانها لأرقام الإصابات بداء كورونا المستجد، وهي مصنَّفة عند المملكة ضمن الدائرة الحمراء للدول الموبوءة بالفيروس والتي اعتمدت اللقاح الصيني كخيار أول...وردَّت الإمارات بالطريقة نفسها على الإجراءات السعودية.
كان قد سبق ذلك، منذ مدة ليست بالطويلة، إجراء سعودي بحرمان أي مؤسسة أو شركة سعودية من الدخول بمناقصات مع مؤسسات وقطاعات الدولة السعودية، إذا لم يكن مقرها داخل حدود المملكة، وأعطيت مهلة عامين لانتقال الشركات. فحدث انتقال لشركات عديدة من دبي، وجزء آخر بدأ بتصفية أعماله؛ الأمر الذي أدَّى لانسحاب آلاف الشركات من دبي.
وأخيراً، وبعد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى "أبو ظبي"، صدرت عدة قرارات سعودية بعدم إعفاء من الرسوم الجمركية والمعاملة التفضيلية للسلع المنتجة بالمنطقة الحرة بجبل علي (لأنَّ ربع اليد العاملة في إنتاجها ليست سعودية) أو أنَّها تستفيد من إدخال مواد إسرائيلية المصدر في صناعتها؛ الأمر الذي يؤدي إلى اختراق البضائع الإسرائيلية للسوق السعودي ..أيضاً هذا كانت له آثار هائلة على المناطق الحرة في دبي.
من الناحية السياسية الصرفة؛ كان الافتراق بين وليي العهد في البلدين وأفول شهر العسل السعودي الإماراتي، قد بدا بانسحاب الإمارات رسمياً من الجهد العسكري لتحالف عاصفة الجزيرة، وترك المملكة وحيدة ضمن إطار دعم الحكومة الشرعية برئاسة الرئيس هادي ..بل اكتفت بدعم المجلس الانتقالي الجنوبي والسيطرة على جنوب اليمن وجزيرتي سوقطرة وميون المهمتين، إلى جانب ميناء عدن، واتخاذ شعار مكافحة الإرهاب والابتعاد عن دعم الشرعية اليمنية في حربها ضدَّ الحوثي؛ فوجدت السعودية نفسها وحيدة بتلك الحرب..
كان التحفظ السعودي واضحاً على التطبيع المتسارع، بل المتهور الذي انتهجته أبو ظبي مع إسرائيل، والضغط على دول عربية عديدة لجرها لذلك..
أيضاً، كانت تراود المملكة السعودية هواجس عديدة إزاء انفتاح أبو ظبي الكبير على إيران، ووصول التبادل التجاري لأكثر من 20 مليار دولار في العام..
بالمقابل، كان هناك تحفظ من أبو ظبي على الرياض بعد قمة العلا الخليجية الأخيرة التي شهدت عودة دفء العلاقات القطرية السعودية بأكثر ممَّا تشتهيه أو تتوقعه الإمارات.
تنتهج أبو ظبي سياسة راديكالية تجاه منظمات الإسلام السياسي والدولة التركية (وصلت لحد التلاعب بالعملة)..ولا ترى السعودية أنَّ هناك مانعاً من التعامل مع بعض الحركات السياسية الإسلامية كحزب الإصلاح اليمني الذي يتلقى دعماً سعودياً ويحارب الحوثي...أو جماعات الإخوان المسلمين الممثلة ببرلمانات دول خليجية كالبحرين والكويت ..وأخيراً الانفتاح على حماس والذي تجلى باستضافة خالد مشعل على أحد أهم المنابر الإعلامية السعودية (قناة العربية)..ودعوة أبو الوليد من العربية، لإصلاح ذات البين بين المملكة وحركة حماس.
ولا ترى الرياض مانعاً من التقارب مع تركيا، ونسج علاقات سياسية واقتصادية والتعاون معها بملفات عديدة.
بعض المراقبين رأى أنَّ الخلاف السعودي الإماراتي يراد به إحداث خلاف آخر قد يؤدي بنتائجه إلى انفجار منظمة اوبك بلس، وبالتالي حدوث انهيار بأسعار النفط نتيجة المنافسة وفوضى التصدير؛ الأمر الذي تستفيد منه الصين (أكبر مستورد للنفط بالعالم) وتتضرَّر منه إيران وروسيا الدولتان المنتجتان للخام الأسود، واللتان يعتمد اقتصادهما على ريعه، خاصةً أنَّ سعر أقل من 40 دولاراً لا يناسب إيران وروسيا أبداً؛ وبالتالي إحداث خلاف صيني من جهة وروسي إيراني من جهة أخرى، ممَّا يؤدي لإحداث صدع استراتيجي بين الحلفاء الثلاثة.