د. باسل معراوي
إذا نظرنا إلى الجغرافيا والتاريخ، فلن نستغرب هذا الصراع القديم والمتجدِّد بين الروس والغرب عموماً، متجسداً بشكل خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية بوصفها قائداً للعالم الغربي.
تملك أمريكا من الموانع الطبيعية ما يجعلها تشعر بالأمان؛ إذ إنه يحدها من الشمال كندا، ومن الجنوب المكسيك، وشرقاً وغرباً الأسماك في المحيطين الهادي والأطلسي؛ لذلك من الصعب غزوها ..وكلُّ الحروب التي خاضتها أمريكا منذ استقلالها هي حروب على المصالح، وليست حروباً وجودية قائمة على فرضية "نكون أو لا نكون".
أمَّا روسيا فهي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، بعدد سكان قليل نسبياً لا يتجاوز 140 مليون نسمة، ولا توجد موانع طبيعية تحميها كـ(الجبال، أو البحار..الخ).. وهي تملك حدوداً مع 14 دولة، منها الصين وكوريا واليابان شرقاً، وأوربا غرباً.
هذه الجغرافية اللعينة تطارد الروس منذ القدم، وعندهم هاجس الغزو دائماً من الجيران، وهم كثيراً ما تعرضوا له.
وكل الغزوات التي تعرضت لها روسيا كانت غزوات تستهدف وجودها، وهو ليس خوفاً متوهماً بل حقيقياً؛ فعلى سبيل المثال ـ بعد الغزوات القديمة التي قام بها المغول والتتار والتي أدت لطرد هذا الشعب السلافي غرباً باتجاه روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا ـ تعرَّض الروس عام 1605 لغزو من بولندا، وبعدها بمئة عام سعى السويديون لغزوهم، ثمَّ في عام 1812 قام نابليون بغزوهم بمغامرته الشهيرة، وبعد ذلك بمئة عام ـ تحديداً في عام 1914 ــ قام الألمان بغزوهم بالحرب العالمية الأولى، وبعد 27 عاماً قام هتلر في العام 1941 بغزوهم أيضاً ووصل إلى "ستالين غراد" وحاصرها، لكنَّه لم يتمكن من دخولها، ولو تمكن من احتلالها لسقط الاتحاد السوفييتي كاملاً تحت قبضته.
هذا الخوف الاستراتيجي الوجودي حاضر دائماً في ذهن الزعماء الروس، فأيُّ دولة تملك فائضاً من القوة يمكنها أن تغزو روسيا، خاصة من السهل الأوربي المنبسط والواسع من الغرب.
لذلك ابتدع أول قيصر روسي، المسمَّى إيفان الرهيب، استراتيجية الهجوم من أجل الدفاع، بحيث يغزو الشعوب والقبائل المجاورة لخلق مساحة أمان تبعد الأراضي الروسية عن متناول العدو، وتخلق موانع طبيعية إضافية لاستغلالها في الدفاع، وسار على هذه السياسة معظم القياصرة حتى كانت حدود روسيا القيصرية في بداية الحرب العالمية الأولى تصل إلى مناطق الحكم الذاتي في فنلندا وآيسلاندا وبولندا.
وعندما وضعت الحرب العالمية أوزارها، نظر ستالين إلى الخريطة فوجد أنَّ الجيش الروسي كان قد احتل كلَّ أوربا الشرقية ومعظم ألمانيا، وكانت أقرب نقطة للعدو الجديد "حلف الناتو" الذي يبعد عن الأراضي الروسية 1000 كم.
هذا الهاجس الأمني يفسر لنا " لماذا يشن القيصر الحالي غزواته في القرم وجورجيا وأوكرانيا، ويدعم أنظمة حكم ديكتاتورية في جواره الآسيوي؟ ".
وممَّا عزَّز من المخاوف الأمنية لدى الروس، ودعَّم عندهم عقيدة عدم الثقة بالغرب خاصة وعدم الركون إليه؛ هو ما حصل بعد انهيار حلف وارسو، الذي كان يعطي المبرر لوجود حلف الناتو واستمراره، حيث انضمت عدة دول كانت منضوية فيه إلى عضوية حلف شمال الأطلسي "الناتو".
فلماذا يبقى هذا الحلف؟.. ولماذا يتوسَّع شرقاً؟.. ومن سيواجه غير روسيا ؟
أمر آخر يقدمه التاريخ لنا، هو أنَّ الولايات المتحدة كانت قد تحالفت أو تصالحت أو لم تعد بحالة عداء مع الأمم والدول التي حاربتها كـ(ألمانيا، واليابان، وفيتنام.. الخ)، بينما روسيا القيصرية وخليفتها الاتحاد السوفييتي الذي حارب بالحربين العالميتين الأخيرتين في القرن العشرين، بالتحالف مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة ضدَّ عدو مشترك، مازالت إلى الآن في حالة عداء كاملة، وبأحسن الأحوال في حالة عدم ثقة متبادلة بين الطرفين. ولم يكن الخلاف العقائدي سبباً للعداء؛ فروسيا حامية الأرثوذكسية المشرقية أو الاتحاد السوفييتي الشيوعي العالمي، على نفس الدرجة من التفكير الاستراتيجي والعداء للغرب.
لم تكن العلاقات الروسية الأمريكية جيدة على الأقل منذ عام 1917..لذلك كل ما سعى إليه الرئيسان في قمتهما الأخيرة تمثَّل بخفض مستوى التوتر بين البلدين، عبر عقد اتفاقيات جديدة أو تمديد الاتفاقيات القديمة المتعلقة بنشر الصواريخ الاستراتيجية. وطرأ موضوع جديد هو "الهدنة السيبرانية" بين البلدين.
ويمكن تلخيص أهم ملفات الخلاف من وجهة نظر كلٍّ منهما؛
من وجهة نظر روسيا الاتحادية، أبرز الملفات التي تهمها وتثير مخاوفها من أمريكا والغرب، هي:
1- السعي الدائم من الولايات المتحدة لتطوير المزيد من الأسلحة التقليدية، نوعاً وكماً.
2- توسع الناتو شرقاً وقضم الدول المحيطة بروسيا؛ الأمر الذي لا ترى فيه روسيا إلا محاولة لتطويقها.
3- المخاوف الروسية من الخطط الأمريكية لزعزعة استقرار الأنظمة الموالية أو الصديقة لها، تحت حجج الديمقراطية وحقوق الإنسان..."مع إيمان الروس المطلق وقبلهم الاتحاد السوفييتي أنَّ الديمقراطية سلاح غربي الغاية منه محاربة روسيا".
أمَّا أبرز النقاط الأمريكية التي تأخذها على روسيا، فهي:
1-السعي الروسي الدؤوب لتطوير المزيد من الأسلحة النووية.
2- السعي الروسي الحثيث لتقويض الديمقراطية في العالم ودول أوربا خاصة، وذلك بالتدخل للتأثير على الرأي العام لتعزيز فرص نجاح اليمين الأوربي المتطرف والوصول للسلطة ..إضافة للهجمات السيبرانية التي تشنها للتلاعب بنتائج الانتخابات الأوربية والأمريكية مؤخراً.
3-الشهية الروسية في التدخل بشؤون الدول المجاورة وخاصة أوكرانيا وجورجيا وروسيا البيضاء.
4- دعم الدول المارقة وَفْقَ التصنيف الأمريكي كـ(إيران، وفنزويلا، وكوريا الشمالية، والنظام السوري).
5-السعي المتزايد لتطوير العلاقات الروسية الصينية؛ الأمر الذي يؤدي إلى تهديد العالم الغربي.