حسن النيفي
لم يعد سرد المظلوميات وسيلة نضالية ناجعة للشعوب التي تبحث عن حريتها وتحررها من جبروت وتسلّط الأنظمة المتوحشة، كذلك لم يعد لدى العالم – دولاً ومنظمات وأفراداً – الاستعداد ذاته للاستجابة لمزيد من النواح وصيحات التشكّي وإظهار الفواجع، وما يحظى باهتمام الدول – اليوم – هو الحديث أو الخطاب الذي يلامس مصالحها أكثر بكثير من النداءات الإنسانية التي لن تحتفظ بتأثيراتها كثيراً أمام منطق المصالح الذي بات شائعاً بل متسيّدا على جميع أشكال الخطاب السياسي. واستناداً إلى مثل هذه القناعات راح الكثيرون يأخذون على السوريين استمرارهم في الحديث عمّا تعرّضوا له من أشكال الموت، وعمّا حلّ بهم من كوارث، ليس بفعل زلزال السادس من شباط وما حمل من تداعيات، بل بفعل ما أقدم عليه نظام الأسد من انتهاكات فظيعة بحق السوريين.
تستند القناعة السالفة بعدم جدوى المظلوميات على فهم ربما يكون مجافياً للتشخيص الصحيح فيما يخص الحالة السورية، ذلك أن السوريين لا يشتكون من حالة محدّدة مسّهم فيها الضرّ، وانتهت تلك الحالة، وهم الآن يطالبون بالقصاص من الجاني أو يطالبون المجتمع الدولي ممثلاً بدوله وهيئاته الرسمية بإنصافهم، بل هم بالأصل يعانون من مقتلة تستهدف وجودهم منذ اثنتي عشرة سنة، وما تزال قائمة ومستمرة حتى الآن، بل ولا أحد قادر على التنبؤ بنهايتها طالما استمرت أسباب أو مقوّمات وجودها واستمراريتها، فاستهداف المواطنين بالبراميل المتفجرة ليموتوا تحت أنقاض بيوتهم وخيامهم بدأ في العام 2012 ولم ينته حتى الآن، بل وفي غمرة الفواجع التي يحياها السوريون من تداعيات الزلزال المدمّر، وفي الوقت الذي لم ينتهوا فيه من استخراج جثث موتاهم من تحت الأنقاض، قامت قوات الأسد في السابع والعشرين من شباط الماضي بقصف محيط بلدة معرّة مصرين وكفريا والفوعة والأوتوستراد الرئيسي بين إدلب وباب الهوى، مُخلّفة دماراً وخراباً في الأنفس والممتلكات والبيوت، ما يعني أن مواجهة الموت لم تكن حالة عرضية يمكن أن تنتهي بانتهاء مسبباتها، بل ما بات مؤكّداً أن العنف والحالة الدموية باتت هي الشكل الناظم للعلاقة بين الشعب والسلطة، ولا شك أنها علاقة غير متكافئة من جهة أن نظام الحكم هو الأقوى باعتباره المالك الأكبر لوسائل القوة.
ربما يرى الكثيرون أيضاً أن صيحات الألم المقرونة بالحديث عما ارتكبه النظام الحاكم من جرائم لا يمكن أن تفضي إلى نتيجة سوى تلبية حاجات نفسية لأصحابها، ومن الأجدى التوجّه إلى ما يمكن فعله من جانب المجتمع الدولي ممثّلاً بهيئاته ومنظماته الرسمية، وذلك من خلال خطاب عقلاني يبتعد كلّياً عن المشاعر والعواطف والنداءات الإنسانية، وبوضوح أشدّ يدعو أصحاب هذا الرأي إلى التركيز المجرّد على ما صدر عن الأمم المتحدة من قرارات بخصوص القضية السورية، والسعي لدى الأطراف الدولية الفاعلة والمؤثرة بغية تفعيل تلك القرارات باعتبارها المرجعية الوحيدة والأساسية للحل في سوريا، وربما انطوى هذا الرأي في مضامينه على قدر كبير من الوجاهة والمعقولية لو أن جذر المشكلة السورية ظلّ ضمن تخوم الصراع السياسي ولم يخرج إلى نطاقه الوجودي، ذلك أن الفحوى الحقيقي للقرارات الأممية جميعها يمكن اختزاله بأن حلّ القضية السورية يكمن في عملية تفاوضية تفضي إلى (هيئة حكم انتقالي) مشتركة بين النظام والمعارضة، يمكن أن تؤدي إلى إنشاء دستور جديد تستعيد المعارضة من خلاله بعضاً من حقوقها السياسية، إلّا أن هذا الحل الافتراضي والمُتخيَّل بآن معاً، يصطدم – على المستوى الفعلي – بعائقين أساسيين، يشير الأول إلى أن مرجعيات الحلّ التفاوضي المتمثلة بالقرارات الأممية لا تحمل صفة الإلزام من الناحية الفعلية، أي أنها ليست مُدرجة تحت البند السابع كما يقال، ممّا يجعل إبطال مفعولها في مجلس الأمن أمراً ميسوراً، وهذا ما واظبت روسيا على ممارسته أكثر من سبع عشرة مرة طيلة السنوات السابقة، ويحيل العائق الثاني إلى أن النظام الحاكم في سوريا لا يرفض التفاعل الإيجابي مع الحلول الأممية أو يكتفي بالتعطيل فحسب، بل ما يزال يمارس سلوكاً إبادياً بحق مواطنيه، لا يختلف عن سلوكه منذ بداية اشتعال الصراع، ربما اختلف عدد الضحايا أو اختلف منسوب العنف انخفاضاً أو ارتفاعاً، ولكنّ منهج الإبادة ما يزال كما هو ولا تفصح السلطة الأسدية عن امتلاك نهج آخر سواه، وحيال واقع محكوم بهذين العائقين، هل ثمة من أفق آخر للحل، وما الذي يمكن للسوريين فعله في ظل هذه الانسدادات؟
يرى أصحاب اتجاه (الواقعية السياسية) أو الاتجاه (العقلاني) كما يسمّي نفسه، أنه لا حياد عن المسار الأممي التفاوضي، وإن تعثّرت سياقاته بفعل عدم استجابة النظام وكذلك بفعل داعميه الدوليين، فيمكن فتح قنوات أخرى للتفاوض وإحياء العملية السياسية، وذلك من خلال مبادرات إقليمية وحوارات بينية بين الدول ذات النفوذ بالمسألة السورية، وفي الوقت ذاته يكون هذا الحراك الإقليمي مدعوماً من الدوائر الأممية، وتتجلى ملامح هذا المسعى في التفاهمات الروسية التركية التي أفضت إلى حوار تركي مباشر مع نظام دمشق، وكذلك في مجمل المبادرات العربية الأخيرة التي وجدت في تداعيات الزلزال مدخلاً مناسباً في إعادة علاقاتها مع الأسد، ولا ننسى أن هذا المسعى بالأصل كان قد دعا إليه مراراً المبعوث الأممي إلى سوريا (غير بيدرسن) أكثر من مرة، وذلك في سياق مشروع ما يُدعى (خطوة مقابل خطوة).
فيما يرى أصحاب اتجاه آخر يُتّهم بنزوعه العاطفي تارةً وبالشعبوية تارةً أخرى، أن أصل المشكلة السورية أو جوهرها هو حقوقي وليس سياسياً، إذ يؤكّد هؤلاء أن مواجهة السوريين لسلطة تقتلهم بالسلاح الكيمياوي والبراميل المتفجرة، كما تصفّيهم جسدياً في المعتقلات إلخ، إنما هي مواجهة وجودية، يقاوم فيها المواطن السوري من أجل البقاء قبل أن يطالب بحقوق سياسية، وبالتالي فإن المشكلة لا يمكن اختزالها بالحيّز السياسي فحسب، بل في نطاقها القضائي الحقوقي، كما يرى أصحاب هذا الاتجاه: أن وجود أكثر من (135 ألف معتقل ومعتقلة) في سجون الأسد بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وغياب أو تغييب آلاف آخرين، وقتل مئات الآلاف بوسائل الدمار المختلفة، واستخدام السلاح الكيمياوي أكثر من خمسين مرة، وكذلك حالات التهجير القسري والتغيير الديمغرافي و...إلخ، هذه الجرائم جميعها لا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولا يمكن لضحاياها النسيان أو التجاوز، ولعل أهم ما يؤكده هؤلاء هو أن الحديث المتكرر عن هذه الانتهاكات الفظيعة والمطالبة بالقصاص من الجاني وتكرار إدانة المقتلة ليس نواحاً ولا تكراراً لسرد مظلوميات ولا خطاباً عاطفياً، بل هذه كلها وقائع عايشها السوريون، وما يزالون يواجهون النهج الإبادي ذاته للسلطة، بل ربما يرى الكثير من هؤلاء أن السكوت عن جرائم الإبادة أو تجاوزها هو الخذلان الأكبر للقضية السورية، كما أن الحضور المتكرر لفصول الإبادة الأسدية ينبغي أن يكون سبيلاً لبقاء الحقوق حيّة في العقول والضمائر وليس فصلاً من صراع يطويه النسيان.
وفي ظل وجود خطابين متوازيين، يبدي أحدهما استعداداً كاملاً للتصالح مع ما تفضي إليه موازين القوى على الأرض من خلال نزعة براغماتية مِدرارة للتبرير في جميع الحالات، بينما يحرص الآخر على بقاء الأواصر قائمة بين الجذر الحقوقي والأخلاقي للقضية من جهة، وتداعياتها السياسية من جهة أخرى، أقول: إن استمرار هذين الخطابين المتنابذين يؤكّد بقوّة أن ما يجب على السوريين أن يفعلوه هو أكثر بكثير مما يجب على المجتمع الدولي فعله.
المصدر: تلفزيون سوريا