حسن النيفي
شهدت البلاد السورية خلال العقد الماضي شكلين اثنين من أشكال الحراك الشعبي الثوري، تجلى الأول في الطور السلمي من عمر الثورة السورية إبّان انطلاقتها في آذار من العام 2011، واستمر على مدى الشهور الستة الأولى، ثم بدا بالانزياح والخفوت شيئاً فشيئاً بسبب الانتقال إلى طور السلاح وارتفاع وتيرة المواجهات العسكرية بين الجيش الحر آنذاك وقوات نظام الأسد، ثم تلاشى الحراك كلّياً في أوائل العام 2012 مع بدء تغلغل الجماعات الإسلامية المتطرفة في مشهد الثورة ومن ثم استهدافها للعديد من الناشطين المدنيين من ذوي التوجهات الديمقراطية الذين كانوا على الدوام هدفاً لتنظيمات داعش أو النصرة ومشتقاتهما سواء من خلال التصفية الجسدية المباشرة أو الاعتقال أو الاختطاف.
ولعل من أهم سمات الحراك الشعبي في تلك الفترة وحدة الأهداف وتجانس المطالب والشعارات إضافة إلى مشاركة معظم الشرائح الاجتماعية في حركة التظاهر. وقد خلت الأعوام (2013 – 2014 – 2015) من أي مظهر من مظاهر الحراك الشعبي وذلك في ظل ارتفاع وتيرة المواجهات العسكرية بين قوات الأسد وحلفائها من جهة وبين فصائل المعارضة من جهة أخرى، بموازاة توغل تنظيم داعش وبسط سيطرته على مساحات واسعة من الجغرافية السورية.
يمكن الذهاب إلى أن العام 2016 جسّد مفصلاً نوعياً في سيرورة المواجهات الميدانية بين القوى المحلية والدولية المتصارعة على الأرض السورية، ففي شهر آب من العام ذاته تمكّن التحالف الدولي بالتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية من طرد تنظيم داعش من مدينة منبج ثم الرقة، وتابع محاصرته للتنظيم في ريف دير الزور، الأمر الذي أتاح قيام كيان ذاتي في تلك المناطق بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd ) الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني، في حين قامت تركيا بعملية عسكرية – بالتفاهم مع روسيا - أطلقت عليها (درع الفرات) بالتنسيق مع فصائل الجيش الحر تمكّنت خلالها من طرد تنظيم داعش من مدينتي جرابلس والباب، ثم أتبعتها بعملية أخرى (غصن الزيتون) تمكنت خلالها أيضاً من طرد تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي من مدينة عفرين، وبهذا أُتيح للحكومة التركية أن تنشئ كياناً لإدارة تلك المناطق يتمثل بمجموعة الفصائل العسكرية التي أُطلق عليها (الجيش الوطني) وبإشراف كيان مدني (الحكومة السورية المؤقتة).
وبموازاة نشوء الكيان الكردي في شمال شرقي سوريا والتركي في الشريط الحدودي الشمالي، تبلور نشوء كيان ثالث في مدينة إدلب وريفها بعد أن استطاع جيش الفتح المؤلف من جبهة النصرة وفصائل إسلامية أخرى من طرد قوات النظام من مدينة إدلب في آذار من العام 2015، وبهذا باتت البلاد السورية تخضع لأربع سلطات أمر واقع (السلطات الثلاث المذكورة إضافة إلى سلطة الأسد)، تلك السلطات الأربع وإنْ كانت تتباين من حيث التوجهات الإيديولوجية والسياسية والعرقية، إلّا أن ثمة مشتركات تجمع بينها لعل أبرزها انزياح مشروع الثورة عن أولوية تلك السلطات وافتقادها للوطنية السورية، وحرصها الشديد على تنفيذ أجنداتها التي تفضي في غالب الأحيان إلى ممارستها لسياسات قهرية تؤدي إلى الاعتداء على حقوق المواطنين وامتهان كرامتهم واستباحة حقوقهم وممتلكاتهم، وإن بدت تظهر بعض التمايزات في السلوك بين سلطة وأخرى، إلّا أن تلك التمايزات إنما تكمن في الجانب الإجرائي والتنفيذي فقط، وقلّ أن تمتدّ إلى التمايز المبدئي.
ربما يتمثّل أحد وجوه المأساة للمواطنين السوريين الذين يعيشون في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات النظام بكونهم تحرروا من سطوة الأسد الأمنية ولكنهم وقعوا تحت سطوة سلطات أخرى، ربما كانت تناهض نظام الأسد لكن دون أن تكون مفارقةً لنزعته التسلّطية وطرائق تفكيره في إدارة شؤون الناس، الأمر الذي كان باعثاً باستمرار لانتفاضات دائمة للمواطنين ومواجهات مع تلك السلطات، وقد عبّرت معظم الاحتجاجات عن مطالب حياتية ذات صلة بالجانب المعيشي كرفض الفساد والتنديد باحتكار السلطة لموارد العيش وإدانة التجاوزات الأمنية لتلك السلطات على حرية المواطنين وامتهان كرامتهم، وكذلك إدانة الاعتقال التعسفي وممارسات التغييب والخطف والتطاول على أملاك المواطنين واستغلال حيازة السلاح لإرهاب الأهالي وترويعهم، وربما وصلت ذروة هذا الحراك الشعبي إلى حالات من الصدام المباشر كما هو الحال في مناطق منبج والرقة ودير الزور حين رفض سكان تلك المناطق منهج التجنيد الإجباري الذي تحاول سلطة قسد فرضه على السكان، وكذلك وصل الصدام ذاته بين عشائر دير الزور وسلطات قسد إلى حالة من المواجهات الدامية في شهر آب الماضي لأسباب متراكمة لعل أبرزها سياسة قسد الإقصائية وتهميشها لعرب المنطقة الذين يشكلون الغالبية السكانية.
وإلى جانب الدوافع المعيشية للحراك الشعبي ثمة دوافع سياسية ذات طابع وجودي كانت وراء مظاهرات عارمة شهدها الشمال السوري، كالتي انطلقت في اعزاز وعفرين وجرابلس والمخيمات وأماكن النزوح على إثر إعلان الحكومة التركية استعدادها للتطبيع مع نظام الأسد، وقد تجدد هذا الحراك مرة أخرى بعد زلزال السادس من شباط ردّاً على موجة التطبيع العربي مع نظام دمشق وإعادة الأسد إلى الجامعة العربية في شهر أيار الماضي.
يمكن التأكيد على أن انطلاقة الانتفاضة الجديدة لأهالي السويداء في منتصف أيار الماضي تُعدّ هي الأقوى والأكثر زخماً على الرغم من تمركزها في مدينة واحدة، وذلك نظراً لمستوى التنظيم ووضوح المطالب وتجانس الخطاب والشعارات، وقد بدأ صدى هذا الحراك بالتوسع فامتد إلى مدينة درعا، كما لاقى تضامناً من معظم المدن والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كما بات هذا الحراك يحظى باهتمام دولي تدريجي، وقد حاول نظام الأسد افتعال أكثر من حدث لإشغال الرأي العام السوري والدولي عما يجري في السويداء، فحاول إذكاء القتال الجاري في دير الزور بين قسد وبعض القبائل العربية، كما افتعل عملية الكلية الحربية بحمص كذريعة لاستهداف دموي لمحافظة إدلب وريف حلب الغربي، إلّا أن صوت الاحتجاجات في السويداء كان يرتفع باستمرار، كما أن مطالب المتظاهرين باتت أكثر حسماً وجذريةً حين أصبح مطلب (إسقاط النظام) يتصدّر جميع مناطق التظاهر، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزّة كان لها الأثر الواضح في جعل الرأي العام يتجه نحو الكارثة في غزة متناسياً أو متجاهلاً كارثة بل كوارث أخرى في إدلب وريف حلب عبر مجازر يومية تنفّذها قوات الأسد.
ما من شك بأن جميع أشكال الحراك السوري تؤكّد على رسوخ ثقافة التظاهر واستلهام الوعي الجديد للثورة، كما تؤكّد على تجذّر فكرة الثورة في الوجدان الشعبي السوري وقابليتها للتجدّد والانبعاث حين تكون الظروف مواتية، ولكن في الوقت ذاته يمكن الإقرار بأن الجدوى السياسية لجميع أشكال الحراك لا توازي زخم الحراك وتضحياته، ولعل هذا الأمر لا يخص موجات الحراك الراهنة فحسب، بل يشمل أيضاً موجة الحراك الأولى التي جسّدت انطلاقة الثورة في بداياتها، إذ إن قيمة أي حراك شعبي إنما تكمن في إمكانية تحوّله إلى مكاسب سياسية، وهذا الأمر يقع على عاتق القوى السياسية من أحزاب وتيارات وجماعات، والتي فشلت في أن تكون حاملاً سياسياً قادراً على تحويل الحراك ( كمُنجَز ثوري) إلى مُنتَج سياسي.
المصدر: تلفزيون سوريا