رأي

هل سيكون الخطاب الهُويّاتي رادعاً للحرب أم مُؤجّجاً لها؟

السبت, 17 ديسمبر - 2022

حسن النيفي 


فيما يزداد خطاب الحرب سخونةً بخصوص العملية العسكرية التي تلوّح بها تركيا تجاه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) منذ أوائل الصيف الماضي، فإن ثمة سخونةً من نوع آخر تتصاعد، بل تسعى لأن تكون رافداً آخر للحرب وعاملاً مُؤجِّجاً لأوارها، ونعني بذلك مجمل الذرائع والمبرّرات التي يسوقها كل طرف من أطراف الصراع زاعماً أن الحقيقة إنما تكمن في ذرائعه ومبرراته، ولئن كان من المعتاد أن فضاءات الحروب لا تفرز سوى الخطاب السياسي المباشر واللغة المكتنزة بالطاقات العاطفية التي تصلح للتحشيد والتجييش، ولكن يبدو أن طبيعة الصراع القائم في الوقت الراهن (باعتباره صراعاً ليس سورياً محلياً من حيث المصالح والأهداف) بدأت تكتسي بخطاب يتجاوز المعطيات السياسية والمصالح المباشرة، ليتخذ أبعاداً هويّاتية أخرى من شأنها أن تكون كالزيت الذي لا يزيد النار إلّا اشتعالاً، وكأن مدن وبلدات شمال شرق سوريا لم تعد ميداناً لصراع المصالح فحسب، بل باتت مسرحاً لصراع عرقي وحضاري يمتد إلى عهود سحيقة من الزمن. 

لا جديد في القول: إن حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني (bkk) لم يكن صاحب إرث في معارضة نظام الأسد، ولم يكن يُحسب على المعارضة التقليدية، لا الكردية ولا العربية، بل ربما تميّز عن العديد من الأحزاب الكردية بنشأته في البلاط الأسدي الذي وفّر له كل عوامل النموّ والرعاية، وبالمقابل فقد اعتمد عليه النظام في كبح الاحتجاجات والتظاهرات في المناطق الكردية قبيل اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، فضلاً عن أن حوامله الأيديولوجية التي تنبثق من النواظم العقدية للطروحات الأوجلانية (مفهوم الأمة الديمقراطية) تبتعد عن باقي الطروحات الكردية الأخرى التي تستمد مضامين خطابها من البعد القومي الكردي، ولعل ما دفع حزب الاتحاد الديمقراطي إلى تعزيز خطابه الأوجلاني في مناطق سيطرته على الجغرافية السورية، ربما هو اعتقاده أن تجنّب الطرح القومي المباشر ربما يجعله أكثر تحاشياً لردود فعل قومية هي الأخرى، من جانب سكان المدن والمناطق التي يبسط نفوذه عليها، وكذلك رغبةً منه في احتواء ردّات الفعل الأخرى على تفرّده في السلطة وإحكام قبضته على معظم مفاصل الاقتصاد والمقدّرات الحياتية الأخرى، لذلك وجدنا أن الآلة الإعلامية لقسد، ومنذ بدء معاركها مع داعش عام 2016 بالتنسيق والدعم مع قوات التحالف الدولي، تحاول التماهي مع خطاب علماني من حيث المظهر، يحاول المواربة عن النزوع القومي المباشر مع المقاربة المُتعمّدة لبعض مفاهيم الحداثة، في مسعى واضح ليس للفت انتباه المحيط المحلّي السوري فحسب، بل لجذب انتباه المجتمع الغربي أيضاً. 

ولكن يبدو أن احتدام الضربات الجوية التي تنفذها القوات التركية على أهداف ومواقع لقسد في العمق السوري، وكذلك أمام إصرار أنقرة على القيام بعملية عسكرية برية تهدف إلى إجلاء قسد عن مدن وبلدات تسيطر عليها (تل رفعت ومنبج وعين العرب) موازاةً مع موقف دولي يبدو أنه أكثر تفهّماً للأهداف التركية، وحيال ذلك كلّه، يبدو أن حزب الاتحاد الديمقراطي لم يعد يرى أنّ الخطاب الأوجلاني ذا الطابع الحداثوي بات مجدياً لكسب التعاطف الكردي اللازم في مواجهته مع أنقرة، ولا بدّ من العودة إلى الشعار القومي والتنقيب في تضاعيفه عن المزيد من سرديات المظلومية الكردية الناتجة عن اضطهاد الكرد السوريين وحرمانهم من جميع حقوقهم القومية والثقافية والاجتماعية وحقوق التجنيس طوال العهود السابقة، بل ربما بات العديد من مسؤولي قسد وقادتها يتحدثون بصفتهم أبناء (روج آفا – غرب كردستان) وليس بصفتهم أصحاب مشروع (الأمة الديمقراطية) كما كانوا سابقاً، ولا يتردّد الكثير منهم في الظهور بمظهر المدافع عن حقوق الكرد في الدفاع عن أحقيتهم التاريخية في شمال شرق سوريا والتي تعود إلى خمسة آلاف عام، وذلك في مسعى واضح لإعطاء المواجهة بعداً قومياً من شأنه كسب الحاضنة الشعبية الكردية، وفي المقابل يأتي الردّ التركي مؤكّداً أن تلك المناطق كانت تحت سيطرة الخلافة العثمانية قبل مئة عام، في حين أن نظام دمشق يجد الفرصة مناسبة لادعائه بأنه الحاكم الوريث للأمويين، وأنه الوصي على عروبة هذه البلاد، وهكذا يجد عامة السوريين أنفسهم أمام ثلاثة أنساق من الخطاب تنتمي إلى جذر واحد (الخطاب الهويّاتي) المنبثق من معطيات تاريخية لا يحمل استحضارها وتوظيفها في الصراع الدائر في سوريا إلّا مزيداً من الخراب، فضلاً عن أن المسألة الأهمّ التي تغيب عن تلك المواجهات في الأصل هي المصلحة الوطنية السورية. 

لعل ما هو لافت ومثير في الانعطافة الإعلامية لحزب الاتحاد الديمقراطي نحو البعد القومي وإحياء المظلوميات الكردية ودغدغة المشاعر والعواطف لدى الكرد، هو إنْ كانت معاناة الكرد السوريين قد بدأت تتبلور معالمها منذ ستينيات القرن الماضي، فمن المفترض أن تكون الحقبة الأسدية التي تمتد إلى أكثر من نصف قرن، هي الأكثر مسؤوليةً عن تعزيز تلك المعاناة، وإنْ كان ثمة مسعى لاسترداد الحقوق القومية والثقافية للكرد والاقتصاص للظلم الذي وقع عليهم وفقاً لقادة ومسؤولي قوات سوريا الديمقراطية، فمن المنطقي أن يتوجهوا بنضالهم ومقاومتهم إلى الجاني الحقيقي والذي ما يزال حاكماً لسوريا وما تزال انتهاكاته مستمرةً لجميع السوريين وليس الكرد وحدهم، أمّا أن يكون هذا الجاني (نظام الأسد) هو ملاذ الأمان الأول والأخير لكيان قسد حين يشعر بأي خطورة أو مواجهة مع قوى أخرى، فذلك أمرٌ يستدعي تفسيرات كثيرة. إذ لا يبدو خافياً على أحد أنه منذ ربيع عام 2019، حين أعلن الرئيس ترامب عن نيته الانسحاب من سوريا، بدأت ولم تنقطع اللقاءات بين وفود قسد والأسد، والتي لم تفضِ إلى أي نتيجة لأسباب ربما كانت بدهية بالنسبة إلى عموم السوريين، ذلك أن مصدر المشكلة السورية وجذرها الأساس لا يمكن أن يكون مصدراً للحل. 

لقد أخفق حزب الاتحاد الديمقراطي في إقامة أي شكل من أشكال التفاهم مع أهم مكوّن كردي في سوريا (المجلس الوطني الكردي)، وذلك على الرغم من الرعاية والإلحاح الأميركي لمسارات من الحوار جرت بين الطرفين خلال السنة الماضية، كما أخفق في إقناع الكرد قبل سواهم بفحوى مشروع (الأمة الديمقراطية) العابر للشعوب والقارات، كما خذلته المصداقية الحقيقية لأي موقف واضح وحازم تجاه نظام الإجرام الأسدي، وبالتالي هل سيكون نبش واجترار الخطاب الهويّاتي هو المخرج من مستنقع البؤس السياسي؟ 


المصدر: تلفزيون سوريا