الطريق- إياد الجعفري
حتى بثينة شعبان قد تصدق أحياناً في بعض تصريحاتها المتعلقة بالسياسة الخارجية. فمستشارة رأس النظام، المعروفة بتصريحاتها المُعلّبَة والتنظيرية، وتلك المُستفزة تحديداً فيما يتعلق بالوضع الداخلي، قدّمت قراءة لافتة للخطاب الرسمي التركي حيال مسألة "التطبيع" مع دمشق. خطابٌ ينمّ عن استياء في أوساط قيادة النظام السوري ممّا يبدو أنه متاجرة تركية بورقة "التطبيع" معه، في بازارات مع دول وأطراف أخرى.
ففيما بات الإعلام التركي وبعض الإعلام العربي المتأثر به، يقدّم اللقاء بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورأس النظام، بشار الأسد، على أنه "مسألة وقت" فقط، كانت مستشارة الأسد تتحدث عبر "الإخبارية" السورية، وتتهم تركيا بالمراوغة بخصوص "المصالحة" بين الطرفين. وتعليقاً على التصريحات الصادرة عن المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم، الرئيس أردوغان، حول عزمهم الذهاب أبعد في "المصالحة" مع الأسد، قالت شعبان إنه لا يوجد شيء رسمي، سوى تصريحاتهم الإعلامية، ولا علاقة لها بالواقع.
إذاً، لماذا يكرر مسؤولو الحكومة التركية "لازمة" اللقاء بالأسد، من حين لآخر؟ تجيب شعبان إن ذلك لأسبابهم الخاصة، أسباب قد تكون انتخابية أو لاستخدامها كورقة مع دول أخرى أو للضغط على أطراف أخرى.
بطبيعة الحال، وفيما لا تثق شعبان في كل ما يصدر عن الأتراك في الإعلام، فإننا بدورنا، لا نستطيع أن نثق فيما يصدر عنها. لكن في مسألة اللقاء المرتقب بين أردوغان والأسد، يمكن الركون لتصريحات شعبان وتوصيفها للتصريحات التركية في هذا الخصوص. لأنه لا قيمة مضافة يمكن أن تحصدها تركيا من لقاءٍ مباشر بين الأسد وأردوغان، إلا إن كان الثمن سيُقبض من روسيا.
قد يعترض البعض على هذا التقييم. وفي هذه الحيثية، يتم تناقل نظرية لا يمكن إثباتها الآن على الأقل، مفادها أن نجاح تركيا في تحييد قيادات عسكرية بارزة في الميليشيات الكردية الناشطة بشمال سوريا، ناجم عن "تعاون أمني" بين دمشق وأنقرة. قد يكون ذلك صحيحاً. لكن هناك نظرية مضادة مفادها وجود ضوء أخضر أمريكي – روسي منذ الصيف، يتيح لتركيا تصفية قيادات كردية ترى فيها تهديداً لأمنها، باستخدام المسيّرات، مقابل تخلي أنقرة عن العملية العسكرية البرية التي كانت تزمع القيام بها منذ نهاية الربيع الفائت.
وبعد تفجير إسطنبول الأخير، ارتفع سقف ذاك الضوء الأخضر، فدخلت الطائرات الحربية التركية الأجواء السورية وصولاً إلى دير الزور، وضربت بكل أريحية وسلاسة، مواقع قيادة ومخازن ومستودعات أسلحة ومقرات للميليشيات الكردية. تلك الأجواء التي من المفترض أنها محكومة من جانب الأمريكيين والروس، باتت متاحة للأتراك دون أية قيود. وقد يتطور ذلك ليصبح مكسباً مستداماً للأتراك، على غرار الإسرائيليين، الذين يحظون بحق اختراق الأجواء السورية، كيفما يشاؤون، ووقتما يشاؤون، لاستهداف المنشآت الإيرانية، بضوء أخضر أمريكي – روسي. بطبيعة الحال، واشنطن وموسكو يريدان من أنقرة، بالمقابل، عدم الذهاب بعيداً في عملية عسكرية برية. والآن، تتداول مصادر إعلامية تركية تسريباً مفاده أن واشنطن عرضت على أنقرة دفع "قوات سورية الديمقراطية – قسد"، 30 كيلومتراً، بعيداً عن الحدود السورية – التركية. وسواء صحت هذه التسريبات أم كانت رسائل تركية للأمريكيين بخصوص المطلوب فعله لتجنب عمل عسكري برّي، فإنها تكشف عن الجهات التي تقدم مكاسب حقيقية للمصالح التركية في سوريا. إنها الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا. بالمقابل، ماذا يمكن للأسد أن يقدّمه؟!
قبل أيام نقلت "أسوشيتد برس" تصوراً مثيراً للسخرية، قالت إنها معلومات على لسان مسؤول لبناني. يمكن الجزم بأن هذا المسؤول من محور "المقاومة والممانعة"، إذ قال إن الأسد تمنّع عن استقبال وفد تركي رسمي في دمشق، ووافق على اللقاء في بلدٍ ثالث. المثير للسخرية في هذا "التسريب" المزعوم، ليس تمنّع الأسد، بل تلك المطالب التركية التي أُرسلت إليه. إذ طلبت أنقرة من الأسد القيام بثلاثة أمور، لا يستطيع فعل أيٍّ منها. طلبت منه، إعادة قواته إلى مناطق سيطرة "قسد"، ومنعها من استخدام الغاز والنفط السوري، وإعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى سوريا. بالنسبة للطلبين الأول والثاني، هما أمنية "أسدية" منذ سنوات. لكن كما يقولون "العين بصيرة واليد قصيرة". لذلك ورداً على سؤال حول مصير الأراضي السورية "المحتلة"، التي لا يلوح أي أمل في الأفق، باسترجاعها من جانب دمشق، ذكّرتنا بثينة شعبان، بـ "مآثرة" حافظ الأسد، حينما رفض عرضاً أمريكياً بإرجاع نحو 90% من الجولان، وقال إنه لا يراهن على تحريرها في حياته، لكنه لن يوقّع صك تنازل عنها. ويمكن لنا أن نرى الآن كم أصبح هدف استعادة الجولان، بعيداً، أكثر بكثير مما كان في نهايات عهد حافظ الأسد. هي ذات "المأثرة"، تنطبق على ابنه. فهو لا يراهن على استعادة "شرق الفرات"، وشمال غرب سوريا. لأنه ببساطة، عاجز عن ذلك، وهكذا إنجازات قد تحدث فقط، نتيجة تغيرات في مواقف اللاعبين في ساحة بلاده.
أما اللقاء المرتقب بين الأسد وأردوغان، فقد أصبح كما وصفته شعبان، ورقة تركية تستهدف تنازلات من موسكو تحديداً. فأن يلتقي أردوغان بالأسد، يعني ذلك دعماً سياسياً وشرعنة أكبر لحاكمٍ معزول من معظم دول العالم، تدعمه روسيا. لذا، على الأخيرة أن تقدم المقابل. والمقابل سيكون في سوريا على الأرجح. وتحاول تركيا رفع ثمن هذا اللقاء قدر استطاعتها. فالأسد ذاته، لا قيمة له، بقدر ما تنبع قيمته مما تقرره موسكو. لذا فتركيا تخاطب تلك الأخيرة. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم الاستياء الجلي في حديث بثينة شعبان. فالأتراك لا يرون في رأس النظام ندّاً لهم، حتى بات اللقاء به يحتاج لدفع الثمن، مسبقاً.