الطريق- عبدالحافظ كلش
يُنسَب ــ مؤخَّراً ــ إلى الشاعر الكبير الراحل محمود درويش، أنَّه قال:" شتمنا الحكومات خمسين عاماً، لكنَّها لم تسقط، والذي سقط هو الشعر"!
وبالطبع، سواء أكانت هذه العبارة صادرة عن محمود درويش أم عن غيره من الشعراء الكبار، ليس مطلوباً من الشاعر أن يشتم الحكومات الفاسدة أو أن تتحول قصائده إلى بيانات سياسية معينة، وإنما المطلوب في الحد الأدنى توظيف الإبداع الذاتي للوقوف مع القضايا الإنسانية والوطنية التي من البديهي أن يهتمَّ بها الشاعر.
لكن، هل يسقط الشعر حقاً عندما يقوم صاحبُه/ الشاعر بشتم الاستبداد والطاغية، أم يسقط عندما يمدح ذاك الاستبداد ويتماهى معه ثقافياً؟
وأيُّهما أخطر على الثقافة العربية وعلى مستقبلها: الذي يشتم أم الذي يمدح ويؤوِّل؟
قد يقول قائل: ربَّما يسقط الشاعرُ حكوماتياً في الوقت الذي يصعد شعرُه شعبياً، والعكس صحيح.
في الحالة الثانية [أي: عن سقوط الشعر وبروز الشاعر] تحدَّث الدكتور الناقد عبدالله الغذامي في كتابه الشهير والمهم (النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية) عن مساهمة "شعر المديح" في صناعة الطاغية والمستبد، وأشار إلى خطورة وجود أنساق ثقافية تسرَّبت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي، في المجتمعات العربية التي صار شعراؤها ينظرون إلى أولئك الشعراء الأوائل المدَّاحين للطغاة والملوك الآمرين نظرتَهم لرمزٍ ثقافي لا يُساءَل وإنما يُقتدى به دون تمحيص، ولا يُنظر إليه ضمن سياقه التاريخي الاجتماعي السياسي الأدبي الذي مرَّ وانتهى، وإنَّما يُعمل على إعادة إنتاجه!
ذائقة المجتمع
إنَّ ذائقة المجتمع "البسيطة"، البعيدة عن التقييمات الأيديولوجية، كثيراً ما تتقصَّى الدلالات وتجري تقييماتها ومقارناتها بشكلٍ عفوي بين شاعرٍ ممالِئ للسلطة متوارٍ في حيزٍ رمادي دون أن يسمِّي الأشياء بمسمياتها، وشاعرٍ ملتزم بقضايا مجتمعه الذي ينتمي إليه أخلاقياً.
ومهما تجاوبت بعض شرائح المجتمع مع متعة جمالية آنية تحيط بنصٍ أدبي ما، فإنَّ تلك المتعة سرعان ما تتلاشى وتُنَسى دون تحقيق فائدة؛ فالمجتمع المثقل بالأزمات والشروخ، في عصرنا، ربَّما لا يعنيه في شيء أن يتكلم شاعرٌ حالمٌ عن وردةٍ ما أهداها لحبيبته في أثناء تأمله سقوط المطر من خلف زجاج النافذة، إلا إذا كان ذلك التأثر هروباً لحظياً من واقعٍ بائس، نحو حقلٍ جماليٍّ فقط.
كذلك لا يعنيه ـ أقصد المجتمع ـ أن يتفنّن الشاعر ويتحاذق "متماهِراً" في الحفر اللغوي ضمن عوالم أسطورية غامضة تجترُّ الكآبة والملل.
لا شكَّ أنَّ المتلقي/ الجمهور يتمتع ويطرَب بتذوق الجماليات الفنية الجديدة المبتكرة من قِبل الشاعر، لكن يعنيه بالدرجة الأولى أن يكون الشاعرُ لسانَ حاله المعبّر عن حركته غير المرئية.
المجتمع في العصر الحديث بشكلٍ خاص، يقول للشاعر ببساطة: لديَّ جروح؛ فابدأ ببلسمتها ولاتدِر ظهرَك عني؛ لأنّني أنا من أعطي القيمة التاريخية لمنجزك الأدبي، وإذا كان النقد هو "من يوجِّه دفَّة الإبداع لديك" كما يقول النقاد، فأنا المنارةُ التي تدلّك وتدلهم على الوِجهة الصحيحة.
إذاً، هو يريد من المبدع بشكلٍ عام أن يتكلم عن قضاياه المصيرية، عن مشكلاته وتصدعاته وأزماته التي يعاني منها، بل يطالبه بالسعي لاجتراح الحلول لذلك، وإلّا فما فائدة الإبداع والثقافة وما جدواهما!
من هنا، نشأ أدب الانتماء إلى الحقيقة، وتبلورَ مفهوم الوجود الأصيل لـِـ"المبدع/المثقف" المناقض للوجود الزائف، مثلما صنفهما ــ بشكلٍ عام ــ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر.
إنَّ الانتماء إلى الحقيقة والهم المجتمعي يفضي إلى انتماء متبادل بين المبدع والمتلقي، فالمبدع ــ منطقياً ــ لا يكتب لنفسه حتى وإن كان بحاجةٍ إلى تفريغ للطاقة الإبداعية المكتنزة لديه، والأهم من ذلك أنَّ الذات المبدعة لا يمكن أن تكون ذاتاً حقيقية وأصيلة ونافعة وتاريخية، إلا إذا توفرت لها الحرية.