رأي

النكتة السياسية الشعبية ومرارة الضحك

السبت, 12 فبراير - 2022

الطريق- عبدالحافظ كلش 


يُخطِئ من يظن أنَّ أدبَ الفكاهة شيءٌ هامشي لا فائدة حقيقية تُرجَى منه، بل يبتعد كثيراً عن الصواب من يعتقد أنَّ أدبَ الفكاهة أو الأدبَ الساخر هو صنفٌ أدبيٌّ سهل التناول أو يُنتَج للمتعة والترويح عن النفس فقط، يسلكه ذاك الذي لا يملك شيئاً من الإبداع أو العلم.

إنَّ تاريخ الفكاهة والانتقاد المضحِك في تراثنا العربي، شعراً ونثراً، ضاربٌ في القِدم، وهو موجودٌ بكثرة ومتناقَل ضمن القصص والحكايات والمقطوعات والنُّتَف الشعرية الساخرة، وهذا التاريخ لم يبدأ بطبيعة الحال مع كتاب (البخلاء) للجاحظ أو عنوان كتاب (زجر النَّابح) للفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري، وطبعاً لم ينتهِ أيضاً بكتاب (أخبار الحمقى والمغفلين) لابن الجوزي... 

الشيء الجميل أنَّ الكثير من كتب الفكاهة التراثية تعود لعلماء أجلّاء وشعراء كبار ومفكرين أوائل، نقلوا صورةَ واقعهم ودوَّنوها، وكان من حسن حظنا أنَّ كتبهم التراثية توافرت بشكلٍ كبير بين أيدينا، بعد ثورة الاتصالات التقنية التي لولا كتبها الإلكترونية لكنّا ما نزال نسمع بعناوين الكتب التراثية دون أن نعرف أغلب محتواها، بل دون أن تُكسَر تلك الصورة النمطية الخاطئة المكوَّنة حول المبدعين الأوائل، إذ كنّا نظنهم ــ دائماً ــ شديدي الصرامة ومتجهِّمي الوجوه لا يهتمون بالضحك أو بتدوين الفكاهة المجتمعية والتفاعل معها.

 الأدب الشعبي        

كثيراً ما يُصنَّف الأدب الشعبي بصورةٍ نمطية ظالمة على أنّه أدبٌ عشوائيٌّ مبتذل، مُنتَج من قبل العامة فلا قيمة له أمام أدب الفصحى أو أدب النخبة، فضلاً عن أنه أدب شفاهي غير مكتوب، وسرعان ما تتلاشى تلك الصورة أمام حقيقية محفزات الحوامل الاجتماعية في إنتاج ذلك الأدب بشكل جماعي متوارث محفوظ، دون ذكر اسم المؤلف غالباً. 

هنا تكمن أهمية الأدب الشعبي في كونه نتاجاً مجتمعياً عفوياً، يعكس صورة الواقع المعَاش ويخوض في المسكوت عنه دون تزييف أو "ماكياج" للحقائق، بالإضافة إلى امتلاكه المرونة والقدرة الهائلة على التفلُّت من بين أصابع المراقبة الأمنية إلى أن يصل ويؤثر بجميع الشرائح المجتمعية على اختلاف مستوياتها الثقافية. 

ولا أقصد بكلامي عن الأدب الشعبي ذاك المنجز التراثي المحلي الذي يُقال أو يُغنى أو يُسرَد في المناسبات والأمسيات، بل أقصد نوعاً من الأدب الشفاهي المتناقَل والمتواري عن العيون المخابراتية. بالتحديد: ذاك الأدب الناقد/ المُعرِّي/ الفاضح للسلطة المستبدة، المحفّز على الابتسامة في زمن القهر، بوصفه علاجاً لحظياً أو متنفساً لا بديل عنه تحت وطأة الاستبداد بشتى أصنافه. 

النكتة السياسية الشعبية

تعتبر النكتة السياسية الشعبية جزءاً أصيلاً من الأدب الشعبي، وهي تأتي بشكل عفوي مكثَّف ومختصر وخفيف على النفس، مجسِّدةً بعمق موقفَ المجتمع غير المعلن من الوضع السياسي أو السلطوي القائم. 

 النكتة السياسية ــ المجهولة النّسب في العادة ــ هي التعبير الهامس للمقهورين في مواجهة الفشل السياسي وقلاع التغوّل اللامتناهي للسلطة، وهي الحل النفسي الآني الذي يلجأ إليه المجتمع لكي يتعزَّى بالضحك ويكون بالوقت نفسِه بعيداً عن المساءلة الأمنية والعقاب في "جمهوريات" الخوف. 

في سوريا، برزت أسماء كثيرة وكبيرة ومؤثرة تكتب في حقل الأدب الساخر، ومنهم من تناول النكتة كموضوع للبحث الاجتماعي الأكاديمي، مدوِّناً مئات الطرائف الشعرية والنثرية الناقدة للوضع القائم في البلاد، بالفصحى والعامية، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يدونوا إلا جزءاً بسيطاً من النكات "الشعبية" التي تنتقد وتسخر من السلطة بشكلٍ صريح وعميق؛ لثلاثة أسباب: 

-  بعض النكات السياسية الشعبية تعرِّي الواقع السياسي والسلطة بألفاظ خادشة للحياء، ولذلك فهي تُروَى فقط ولا تدوَّن. 

-  بعضها يُشرَح إيحائيَّاً بلغة الجسد، وهي لغةٌ من الصعب أن تُكتَب. 

-  اختلاف اللهجات في سوريا من منطقة إلى أخرى، وهذا ما يجعل أثرَ المعنى للنكتة السياسية الشعبية متبايناً بحسب المتلقي، وإذا ما حاول المدوِّن أو الباحث أن يشرحها بالفصحى فسيُفاجَأ بأنَّ خصوصية المعنى المحلّي للكلمة المستخدمَة قد ضاعت أو فقدت جزءاً كبيراً من تأثيرها.   

لذلك يبقى هذا النوع الجريء جداً، من ضمن النكات السياسية الشعبية، أسيراً للنقل الشفاهي بل هو محفوظٌ بشكلٍ عجيب من جيلٍ إلى جيل ومن مكانٍ إلى آخر، مع إضافات جديدة وربّما سيناريو آخر للنكتة الناقدة بالخاتمة نفسِها، أو يتم تطعيمها بمثل تاريخي أو شعبي محلي؛ لتغدو أكثر قوة في الإضحاك والإقناع والتعرية، وتعزيز كراهية الظلم والفساد. 

 النكتة السياسية الشعبية هي من المشاع الثقافي المتجاوز لبيئته المحلية، ولا بدّ من التعامل معها كظاهرة اجتماعية لها مدلولات سياسية واقتصادية عميقة، فهي تفضح فساد السلطة بلغةٍ شعبية بسيطة صادقة، والأهم أنها متمردة غير منتمية لأي أيديولوجيا محجّمة لها. 

وإذا كان علم الاجتماع في دراسته للظواهر الاجتماعية يصرِّح بأنَّ الموسيقا والأغاني التي يستمع إليها أفراد المجتمع هي التي تحدِّد وتقيِّم درجة الرقي والتمدُّن المجتمعي لديهم، فإنَّ دراسة ظاهرة النكتة السياسية الشعبية تحدِّد بشكل أدق مساحة حرية التعبير لدى المجتمع المُستلَب المقهور، أو درجة وعيه بالواقع وبمفاصل الفساد المغذّي للسلطة؛ لأنَّها ناطقة بلسان حال المجتمع ومعبِّرة عن رأيه وتقييمه وغضبه، حتى وإن كان ذلك يصدر عنه بطريقةٍ فكاهيةٍ سوداء.

عبد الحافظ كلش

قاص سوري ومهتم بالشأن الثقافي