الطريق- إياد الجعفري
قبل يومين، جرت خطوة "تطبيعية" جديدة بين نظام الأسد وسلطات دولة الإمارات. لكنها كانت خطوة هزيلة، ولا تحمل أية قيمة نوعية للطرفين، خاصة للنظام السوري. إذ وقّعت وزيرة الثقافة بحكومة الأسد، مع نظيرتها الإماراتية، في أبوظبي، مذكرة تفاهم لتبادل الخبرات والدعم في مجال أرشفة القطع الأثرية السورية.. هل هذا ما كان يأمله نظام الأسد من "التطبيع" مع الإمارات؟! أرشفة القطع الأثرية السورية!
بطبيعة الحال، لا. لكنَّ مياهاً جديدة جرت في مسار "التطبيع" الإماراتي مع الأسد، خلال الأسابيع الثلاثة الفائتة، تستدعي الوقوف عند تساؤل ملح: هل سيحصل نظام الأسد على المكاسب القصوى المأمولة لديه من خطوات "التطبيع" مع الإمارات، وهي دخول استثمارات إماراتية نوعية إلى سوريا؟ أم سينحصر "التطبيع" بين الطرفين، بمكاسب أدنى من ذلك بكثير؟
تبدأ الإجابة من تاريخ 25 كانون الثاني/يناير الفائت، الذي شهد آخر خطوة "تطبيعية" ذات معنى، بين الأسد وسلطات دولة الإمارات، حينما زار قنصل الأسد في دبي، غرفة تجارة وصناعة إمارة الشارقة، وناقش الطرفان زيادة التبادل التجاري. وكان لافتاً من خلال البيانات الرسمية للطرفين، تركيز كل منهما على المكاسب المأمولة لكل طرف. فنظام الأسد يريد استثمارات إماراتية "عاجلة" إلى سوريا، فيما تريد إمارة الشارقة جذب المزيد من رجال الأعمال السوريين للاستثمار على أراضيها، خارج بلادهم.
من يقرأ بيانات الطرفين، يجد تنافراً جلياً في الأهداف؛ إذ لا مصلحة –نظرياً- لنظام الأسد بهروب المزيد من رؤوس الأموال، من الأراضي التي يسيطر عليها. لكن الإمارات، منذ أشهر، تفتح أبوابها وتقدم مزايا وتسهيلات لرؤوس الأموال وللعمالة السورية. فهل قدّمت الإمارات للأسد أي مكاسب حقيقية، باستثناء الانفتاح الدبلوماسي؟ قد يكون الجواب، نعم، إلى حدٍ ما.
هذا ما كشفته صحيفة "وول ستريت جورنال"، الأمريكية، في نهاية الشهر الفائت، حينما تحدثت عن دعم سلطات الإمارات لجناح النظام السوري في معرض إكسبو دبي. فالشركات السورية سُجلت فيه بوصفها كيانات خارجية في دبي وأبوظبي، لإخفاء أصولها، والتهرب من العقوبات الغربية. وهكذا، ومن خلال القنوات الإماراتية، يمكن للشركات السورية أن تتاجر مع مختلف الأسواق الدولية، وتشتري وتبيع سلعاً متنوعة، بعيداً عن شبح العقوبات. بكلمات أخرى، يبدو أنّ الإمارات تتيح لرأس المال المحسوب على الأسد، هامشاً أكبر من الحركة، عبر قنواتها. وهو ليس بالأمر الجديد، إذ سبق أن رصدت تقارير عدة، دوراً إماراتياً في استقبال وتسهيل نشاطات رؤوس أموال موالية للنظام، على أراضيها، خلال العقد الفائت، في الوقت ذاته، الذي كانت فيه الإمارات تدعم المعارضة السورية "نظرياً على الأقل". لكن، في الوقت الحالي، تبدو مساهمة الإمارات في خلق متنفس لرأس المال الموالي للأسد عبر أراضيها، تزداد اتساعاً. يشابه ذلك ما قامت به الإمارات على مدار السنوات الماضية حيال إيران. إذ كانت دبي بصورة أساسية، متنفساً للاقتصاد الإيراني، خاصة بعد تشديد العقوبات الأمريكية على طهران، عام 2018. ولطالما عبّرت السلطات الأمريكية عن امتعاضها حيال هذا الدور الإماراتي، وصولاً إلى معاقبة شركات تتخذ من دبي مقراً لها، من جانب وزارة الخزانة الأمريكية، مراراً. فماذا تريد الإمارات من ذلك؟ الجواب من شطرين: مكاسب مالية مغرية للاقتصاد الإماراتي تجعله ملاذاً سرّياً آمناً للنشاطات التجارية غير المشروعة جراء العقوبات الغربية. أمَّا الشطر الثاني من الجواب، فهو أن تقدم الإمارات لإيران بصورة أساسية، "أعطية" تتيح لها الابتعاد عن غضبة الإيراني القادر بصواريخه وأدواته "العربية" على شطب سمعة الإمارات كواحة للاستقرار وبيئة جاذبة للاستثمار في المنطقة. تلك "الأعطية" امتدت إلى الحالة السورية. وبدلاً من التفسير "الساذج" الدارج بأن الإمارات تريد تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، عبر انخراطها فيها، تبدو أبوظبي في حالة بحثٍ عن آليات لاسترضاء الإيراني، عبر إتاحة متنفس اقتصادي لحليف طهران في دمشق، الذي يعاني في جوانب كثيرة من آثار العقوبات الغربية عليه.
لكن، هل هذا ما كان يأمله الأسد من الانفتاح "الحماسي" الإماراتي عليه؟ بطبيعة الحال، لا. فأزمة النظام الاقتصادية لا تتعلق فقط بالعقوبات التي يتقن تجار سوريا فنَّ التحايل عليها، منذ سنوات وربما عقود. بل تتعلق بغياب أي مصادر لتمويل خزينته، وحالة أشبه بالإفلاس. إنه بحاجة ملحة لأموال تعيد إعمار سوريا، كي تصبح هناك نشاطات اقتصادية تتيح ضخ مصادر تمويل للخزينة "السورية". وهذا ما كان يراهن عليه الأسد خلال اندفاعة الإمارات نحوه، في الثلث الأخير من العام الفائت. تلك الاندفاعة لجمتها تكتيكات إيرانية جديدة، لابتزاز الإمارات. فإيران قررت استخدام سلاح تهديد استقرار الإمارات، عبر 4 هجمات على الأقل، خلال ثلاثة أسابيع، من جانب أدواتها في اليمن والعراق. والمطلوب إيرانياً من الإمارات، صعب للغاية؛ فسياسة أبوظبي على مدار السنوات الأخيرة بأن تضع قدماً مع السعودية والغرب وإسرائيل، وأخرى قريباً من إيران، عبر خلق متنفس لاقتصادها، بهدف تجنيبها ويلات مواجهة عسكرية إقليمية كبرى في المنطقة ــ تدمِّر اقتصادها القائم كليةً على مفردة "الأمن".. تلك السياسة لم تعد مقبولة إيرانياً؛ فطهران تريد المزيد من "الأعطيات" الإماراتية. تريد من أبوظبي الانسحاب تماماً من اليمن، ووقف تعاونها الأمني المتصاعد مع إسرائيل، والذي تعدّه طهران، تهديداً لها. وبذلك تواجه الإمارات معضلة "استرضاء" طهران في التوقيت الخاطئ. فإيران التي تشعر بفائض قوة، تحظى بالمزيد من رغبات الحوار والانفتاح عليها، من مختلف الأطراف الإقليمية (الإمارات، السعودية..)، والدولية (الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي..).. فكانت النتيجة تزايد الشعور بفائض القوة لدى الإيرانيين، والذي نرى نتائجه الآن في هجمات أدواتهم "العربية"، ضد الإمارات، التي عجز نظام الأسد حتى عن مجرد إصدار بيان إدانة حيالها، في الوقت الذي صدرت فيه بيانات إدانة مقتضبة من بيروت وبغداد، وفي الوقت الذي سمحت فيه روسيا والصين – حليفَتَا إيران – بتمرير بيان لمجلس الأمن الدولي يصف الهجمات بأنها "إرهابية" وأنها تهدد "الأمن والسلم العالميين".
كيف تُقرأ المعطيات الأخيرة، إماراتياً؟ من المبكر الجزم بذلك. لكن ما يتضح جلياً أنَّ الإمارات ستكون عرضة للمزيد من الابتزاز الإيراني في الفترة القادمة، لتجد نفسها مضطرة للمزيد من الالتصاق بالحليف الأمريكي القديم، والإسرائيلي المستجد. معضلة ستجعل نظرية اندفاع استثمارات إماراتية لإعمار سوريا، بهدف تحجيم النفوذ الإيراني فيها، مثيرة للسخرية. وأقصى ما يستطيع الأسد تحصيله من أبوظبي، في الفترة القادمة، ذات المتنفس المتاح لرؤوس الأموال المحسوبة عليه، هو لقاءات دبلوماسية علنية، لا تُسمن، ولا تُغني من جوع.