الطريق- إياد الجعفري
ماذا يمكن أن يحدث لو تحققت أسوأ التوقعات الاستخباراتية التي سربتها "واشنطن بوست"، مؤخراً، والتي حذّر منه المسؤولون الأوكرانيون، واستيقظنا فجر يومٍ ما من أواخر كانون الثاني/يناير القادم على وقِع أنباءً عن غزو عسكري روسي مباشر للأراضي الأوكرانية؟
وكيف ستتصرف أمريكا حينها؟ وكيف سيتصرف الغرب برمته؟ وكيف ستتصرف تركيا أيضاً؟ وكيف يمكن أن ينعكس ذلك على المشهد بسوريا؟
تتعدد الإجابات حول المسارات التي قد يتخذها سيناريو الغزو العسكري الروسي. وفيما يذهب البعض بمخيلته إلى توقع مواجهة روسية – غربية مباشرة، يحصر آخرون الاحتمالات بخسارة أوكرانيا للمزيد من أراضيها. فيما يرفض فريق واسع من المراقبين سيناريو الغزو العسكري الروسي المباشر، برمته، مراهنين على تسوية سياسية مرتقبة، يعمل عليها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بدأب، خشية أن يجد نفسه في موقفٍ لا يُحسد عليه.
لكن لو حدث الأسوأ، وغزت روسيا فعلاً أوكرانيا؟ كيف سترد أمريكا؟
اجتهد بايدن، في الساعات الأخيرة، في التوضيح، وبكل الكلمات الممكنة، أن العمل العسكري المباشر، غير مطروح على الطاولة أمريكياً. وهو بذلك لا يعبّر عن موقف واشنطن فقط، بل يعبّر عن موقف الغرب برمته، الذي لا يستطيع الدفاع عن أوكرانيا في مواجهة غزو عسكري روسي شامل، دون التورط في مواجهة مباشرة مع روسيا. وهو سيناريو لا تستسيغه أي حكومة بالعالم الغربي.
لذا، لا يبدو أن سيناريو الحرب الشاملة بين الطرفين، الروسي والغربي، وارداً.
إذاً، كيف سيرد الغرب على سيناريو الغزو الروسي المحتمل؟
تبدو الإجابة عن هذا السؤال، أيضاً جليّة. فأمريكا، التي تقود رد الفعل الغربي حيال الأزمة الأوكرانية، في الوقت الراهن، أوضحت بشكل لا يقبل الجدل، العواقب المنتظرة لعمل عسكري روسي ضد أوكرانيا. وعبّر الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن ذلك، بأوضح كلمات ممكنة، إذ قال لنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، خلال قمة الثلاثاء التي انعقدت بينهما، عبر دائرة فيديو، إن غزو روسيا لأوكرانيا، ستكون له تبعات خطيرة، وعقوبات اقتصادية "لم ير أحد مثلها من قبل".
إذاً، تراهن واشنطن، ومعها العالم الغربي برمته، على رفع الكلفة الاقتصادية والسياسية للحرب، على صانع القرار الروسي. ووفق تسريبات، فإن العقوبات المحتملة ستستهدف أكبر البنوك الروسية، وستعمل على شل قدرة موسكو على تحويل الروبل إلى الدولار والعملات الأخرى، الأمر الذي سيوجه ضربة قاسية للاقتصاد الروسي.
لكن في المقابل، يتساءل مراقبون: هل أعطى بايدن ضوءً أخضر لروسيا كي تغزو أوكرانيا، حينما نفى تماماً سيناريو الرد العسكري، خاصة مع سوابق روسيا في الاستهتار بتبعات العقوبات الاقتصادية الغربية التي تعودت عليها منذ العام 2014؟
قد تكون الإجابة هنا ملتبسة، ولا تحظى باتفاقٍ بين المحللين المتخصصين. إذ قبل حرب عام 2008، دعمت واشنطن جورجيا بشكل كبير، في تعزيز قوتها العسكرية. وتعاملت معها بوصفها حليفاً مقرّباً، ومرشحاً رئيساً لعضوية حلف الناتو. لكن حينما وقعت الحرب، واجتاحت القوات الروسية أراضي جورجيا، وانتزعت مقاطعتين، وهددت العاصمة، كان رد الفعل الأمريكي، والغربي عموماً، مضبوطاً للغاية، واقتصر على التنديد والتواصل الدبلوماسي لوقف إطلاق النار. وكانت تلك، حينها، أكبر ضربة للهيبة والمصداقية الأمريكية أمام الحلفاء، منذ عقود. لذا، ومن وحي ذاك الدرس، يفضّل الأمريكيون اليوم، التحلي بالصراحة حيال المأزق الذي يواجهونه، وألا يرفعوا من سقف توقعات النخبة الأوكرانية الحاكمة، حيال الدعم الذي يمكن أن تحظى به في مواجهة هجوم عسكري روسي مباشر.
لكن، ماذا عن تركيا؟، ماذا لو اندلعت الحرب فعلاً، كيف ستتصرف تركيا؟ وكيف سينعكس ذلك في سوريا؟
تشكل الطائرات التركية بدون طيار، (بيرقدار)، إلى جانب الدعم العسكري الأمريكي المتزايد للجيش الأوكراني، أسباباً رئيسية لتفاقم التأزم في شرق أوكرانيا. فالنخبة الحاكمة في كييف استشعرت فائضاً من القوة سمح لها بتوجيه ضربات قاسية لقوات الانفصاليين في شرق البلاد. وقبل أيام، صرّح وزير الدفاع الأوكراني، أن بلاده استخدمت طائرة بيرقدار مرة واحدة ضد نظام مدفعية للانفصاليين. وأضاف أنه منذ ذلك الوقت يخشى "جنود العدو" استخدام مثل هذه الأنظمة لأنهم يفهمون "كيف يمكن أن ينتهي هذا".
وبالتالي، فإن خشية موسكو من اختلال موازين القوى في شرق أوكرانيا، على حساب حلفائها الانفصاليين، يشكل السبب الرئيس الذي جعل موسكو تحشد آلاف الجنود على الحدود الأوكرانية، وتلوّح، بصمت، بسيناريو الغزو العسكري المباشر.
وخلال الأشهر الفائتة، أبدى الروس امتعاضهم الشديد من دور الطائرات التركية بدون طيار، في تغيير معادلات القوى في شرق أوكرانيا. وهو ما تجاهلته تركيا، التي استخدمت هذا السلاح ضد حلفاء روسيا، في أكثر من مكان في العالم، ومن بينها، سوريا. كما وذهبت أنقرة باتجاه تعزيز علاقاتها مع النخبة الأوكرانية الحاكمة في كييف، والمناوئة لموسكو.
لكن لو ذهبت الأمور باتجاه حرب روسية – أوكرانية، قد تكون تركيا في مأزق لا يُحمد عُقباه. فإن هي وقفت إلى جانب أوكرانيا، واتخذ دعمها لكييف طابعاً تسليحياً، على غرار حلفائها في الناتو، فهذا يعني أن روسيا ستتعامل مع تركيا، بوصفها "عدو"، وقد تشتعل جبهات عدة بين الطرفين، كنتيجة لذلك. أبرزها، إدلب. وربما شمال شرق سوريا. أما إن اقتصر الدعم التركي على صيغٍ سياسية وإعلامية، فإن روسيا ستتقبل الأمر دون ردود فعل نوعية، لكن تركيا ستخاطر حينها في خسارة "الصديق" الأوكراني، الذي يحتل دوراً محورياً في حفظ توازن القوى بين الأطراف المطلة على البحر الأسود. وهو أمر يمسّ الأمن القومي التركي، على المدى البعيد.
لذلك، نجد أن تركيا تراهن على تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، وقد عرضت الوساطة بين كييف وموسكو أكثر من مرة، لكن الروس ردوا بفتور. ورغم ذلك، فإن أنقرة ما تزال تراهن على تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية.
لكن ماذا عن روسيا؟ وهل حقاً، للروس مصلحة في غزو عسكري شامل للأراضي الأوكرانية؟
في ميزان الأرباح والخسائر، يبدو أن فلاديمير بوتين يلعب لعبة ابتزاز جديدة ضد الغرب، ويراهن من خلالها على تنازلات سياسية نوعية، وربما أيضاً، مكاسب ميدانية محدودة، من قبيل ترسيخ نفوذ القوات الانفصالية الموالية له في إقليم دونباس، شرقي أوكرانيا، والحصول على ممر برّي إلى شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا، بعد غزوها عام 2014. لكن، ليس من المصلحة الروسية، الذهاب بعيداً في العمل العسكري المباشر على الأراضي الأوكرانية، بصورة تعرّض روسيا لعقوبات اقتصادية غير مسبوقة. فالرئيس الروسي، يعلم جيداً أن ذهابه بعيداً في تحدّي واشنطن، سيؤثر في تغيير مزاج النخبة الأمريكية الحاكمة التي تريد في معظمها، تجنب أي تورط عسكري مباشر خارج البلاد. وهو مزاج استفاد منه بوتين كثيراً على مدار عقدٍ ونصف، ولا يريد التأثير باتجاه تغييره عبر النيل، مجدداً، من الهيبة الأمريكية العالمية.
لذلك، فإن مكاسب من قبيل الحصول على تعهدات سياسية صارمة بعدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو، وتعزيز وضع حلفائه الأوكرانيين، شرق البلاد، وفق تسوية سياسية تبث الروح في النفوذ السياسي الروسي داخل كييف نفسها، إلى جانب مكاسب من قبيل، رفع العقوبات الأمريكية عن خط السيل الشمالي الذي يصدّر الغاز من روسيا إلى ألمانيا.. كل هذه المكاسب، ستكون أفضل في ميزان حسابات الرئيس الروسي، من التورط في حرب شاملة على الأراضي الأوكرانية، بكلفتها المرتفعة، وعواقبها الاقتصادية الوخيمة.
وهكذا، يبدو أن معظم الأطراف الفاعلة في الأزمة الأوكرانية، تميل لتسوية دبلوماسية، ترفع الحرج عنهم جميعاً، وتتيح لهم سلماً للنزول من الشجرة التي صعدوا إليها بدفعٍ من صراعات المصالح المتشابكة بينهم. فطبول الحرب التي تُدق روسياً، لن تكون على الأرجح مقدمةً لحرب كبرى، بل قد تكون مقدمةً لتسوية سياسية كبرى في أوكرانيا. أو ربما، في أقصى الحدود، حرباً محدودة تؤدي إلى نتائج ميدانية محدودة ترافقها تسوية سياسية ما. لكن ذلك يعني جملةً من النتائج، أبرزها، أن الابتزاز العسكري الروسي سيفلح مجدداً، وهو ما سيعزز من هذه الاستراتيجية التي يستخدمها بوتين في أكثر من ملف. وقد نجد انعكاسات ذلك مجدداً في سوريا، سواءً على خطوط التماس مع الأتراك، أو على خطوط التماس مع الأمريكيين. فما دامت واشنطن غير مستعدة لدفع تكلفة مرتفعة للحفاظ على هيمنتها ونفوذها الدوليين، فهذا يعني أنها ستقدم التنازلات، في كل مرة تشتبك فيها مع روسيا، في مكانٍ ما، أو في سياق ملفٍ ما. حتى لو كانت التنازلات طفيفة وتدريجية، إلا أنها تعني استمراراً لحالة النمو المطرد، للنفوذ الروسي، الإقليمي والدولي، مقابل تراجع النفوذ الأمريكي.