الطريق -د باسل معراوي
سأحاول الغوص في الأسباب التي أدَّت لهذا الربيع الفلسطيني في الجزء الأوَّل، وقراءة النتائج والمآلات على القضية الفلسطينية في المستقبل في الجزء الثاني.
بعد تسلُّم الرئيس محمود عباس رئاسةَ السلطة الفلسطينية، وتفرُّد حماس بغزة ...بدا الشعبُ الفلسطيني في فلسطين التاريخية مقسَّماً بين الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر ...وتمَّت محاصرة قطاع غزة واعتباره إمارة معزولة تضم 2 مليون فلسطيني موجودين على مساحة 360 كيلو متر مربع..وتمَّ الاعتداء عليها من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي ثلاث مرَّات في الأعوام 2008 و 2012 و2014....كانت أشبه بغوانتنامو فلسطينية، يتمُّ التحكم بها بعدد أكياس الأسمنت المسموح لها بالدخول، وعدد ليترات الوقود اللازمة لتشغيل المحطة الكهربائية الوحيدة ..ونوعية الأدوية أو المواد التي بجب أن تُراقَب بصرامة، سواء كان ذلك من معبر كفرسالم مع دولة الاحتلال أو من معبر رفح مع مصر..ناهيك عن التحكُّم بالسفر ومن يحق له ذلك.
وكان من أساسيات اتفاق أوسلو عدم السماح ببناء مطار أو ميناء في غزة؛ خوفاً من التواصل مع العالم الخارجي دون هيمنة إسرائيلية..إلى جانب الكثير من الإجراءات التي لاتليق بإنسان القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين.
ومع كلِّ ظروف الحصار، تمكّنت المقاومة الفلسطينية من بناء قوة ذاتية قادرة على فرض معادلة الرعب والردع؛ وهذا ما أذهل العالم، وأوَّلُهم الإسرائيليون، الذين فشلت كلُّ جهودهم الاستخباراتية في منع تشكيل تلك القوة، والتي سيكون لها شأن في قادمات الأيام.
أمَّا أراضي السلطة، فقد استسلمت لظروف وشروط الاحتلال، وتم تطبيق عقيدة "توني بلير" والجنرال الأمريكي "دايتون" المتمثلة ببناء الإنسان الفلسطيني الصالح الذي ينظر إلى إسرائيل كصديق وحليف مستقبلي، ويعتبر السلطة الموجودة في غزة عدواً استراتيجيَّاً، وقد تمَّ ذلك بإعادة بناء الأجهزة الفلسطينية المدنية والأمنية، وقيام حكومة سلام فياض بتنفيذ تلك العقيدة أو الخطة؛ حيث تمَّ تفعيل التنسيق الأمني مع الاحتلال لأبعد مدى ممكن (ويقول البعض: تحولت السلطة بالضفة لجيب انطوان لحد فلسطيني)..وتمّ منح عروض بنكية سخية للمواطن الفلسطيني لشراء عقارات حديثة وسيارات جديدة...ومن يُلزَمْ بدفع قسط البنك بأول الشهر فلن يكون مستعداً لرمي سلطات الاحتلال بالحجارة.
واستمرت عملية قضم الأراضي والتوسع ببناء المستوطنات، واستمرَّ أبو مازن بممارسة الرئاسة العجوز، إذ لم تجر أي انتخابات متذ 15 عاماً، وترهَّلت المؤسسات والقيادات، ودمِّر إرث منظمة التحرير الفلسطينية، وبالذات حركة فتح، لمحاولة تطويعها كحزب سلطة نفعي وأداة بيد السلطة (كما هو حادث بسورية على يد النظام السوري وتعامله مع حزب البعث)..وكانت فترة حكم ترامب قد زادت الأمرَ سوءاً باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقله السفارة الأمريكية إليها، وقطعه الكثير من المساعدات المالية وخاصة لمنظمة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين " الأنروا "
وكانت الخطة الأمريكية، عبر كوشنير صهر الرئيس، تعتمد على تطبيق المزيد من الضغوط للقبول بصفقة القرن، والتي في إرهاصاتها ستؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية وحلها، على حساب الأردن، مع احتفاظ الفلسطينيبن بالتجمعات السكانية الكثيفة دون المستوطنات.
عمليَّاً، لم يبقَ من الدول العربية التي لم تتصالح مع إسرائيل غير السعودية والجزائر..والدول العربية التي تدور في الفلك الإيراني(محور المقاومة والممانعة الزائف)...فدول الخليج التي طبَّعت حديثاً مع إسرائيل اعتبرت أنَّ ذلك قد يرقى لتحالف يحميها من التغول الإيراني، خصوصاً بعد خوفها من فوز الديمقراطيين في الولايات المتحدة والعودة لاتفاق نووي أمريكي مع إيران (وهو ما حصل لاحقاً)...وكان ثمن التطبيع مع السودان رفعه من سجلات الإرهاب الأمريكية، أمَّا الثمن الذي تقاضته المملكة المغربية فهو الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ..الخ.
كان هذا المناخ السياسي متزامناً مع اقتراب القضية الفلسطينية من التصفية والتلاشي، دون أي حقوق للفلسطينيين، بالإضافة إلى تقديم إسرائيل كحليف مستقبلي للدول العربية، وربَّما التطلع إلى إمكانية تشكيل "ناتو عربي إسرائيلي" في وجه المد الميليشياوي الإيراني.
وقد ساد جو من الإحباط على المواطن الفلسطيني في الربع الأخير من العام الماضي، بعد انطلاق قطار التطبيع والتهافت العربي على إسرائيل لكسب ودها، كلُّ دولة بشكل مستقل، دون أي بارقة أمل لحل الدولتين أو تطبيق مايمكن تطبيقه من مبادرة القمة العربية في بيروت 2002
أمَّا عن حالة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر (عرب ال48) فلقد كانوا يعانون من تمييز عنصري واضطهاد (ابارتايت) يطبَّق عليهم بشكلٍ فعلي..
الفلسطينيون الذين كانوا 146 ألفاً عام 1948، أضحوا اليوم 2 مليون تقريباً..لديهم جنسيات إسرائيلية ويعانون من تمييز على مستوى التعليم والصحة والعمل..مقارنةً مع اليهودي الإسرائيلي.
ومنذ مقتل رابين وموت الجيل الأول من قادة الكيان، بدا التطرف الديني واليمين يسيطر على مشهد الكنيست والحكومة...وبدا خطاب الكراهية والعنصرية أكثر وضوحاً في الحياة العامة.
لم تنجح عملية "الأسرلة" وظهر زيف إسرائيل في كونها "الدولة الديمقراطية الوحيدة بالمنطقة" و"واحة الحرية" و"التي تؤمن بحقوق متساوية لجميع مواطنيها" بعد أن باتت يهودية الدولة غير قابلة للنقاش.
وفي انتخابات آذار 2021 لم تحصل حركة ميريتس اليسارية إلا على 5 مقاعد..وحزب العمل على 13 مقعداً..وعدة مقاعد عربية..وذهبت بقية ال120 مقعداً إلى أحزاب اليمين، واليمين المتطرف، واليمين الفاشي..
وبدا الانقسام الداخلي في المجتمع الإسرائيلي بين عرب ويهود..وعلمانيين ومتدينين..وغربيين وشرقيبن..وروس وفلاشة..ويمين ويمين متطرف ..كل هذا الانقسام لايلتقي إلا على هدف واحد هو المزيد من التمييز ضدَّ الفلسطينيين وتشجيع الاستيطان، وتحويل مدينة القدس العربية الشرقية ومحاولة طرد سكانها العرب بتزوير صكوك عقارية. والغاية تحويل المدينة العربية إلى حي سكني عربي ضمن القدس الإسرائيلية..وهو السبب الذي أدَّى إلى الانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي نشهدها الآن، والتي سأحاول البحث في نتائجها بعد أن قدَّمتُ قراءتي لأسباب نشوبها.