إياد الجعفري
انقسم السوريون في الضفة المعارضة للنظام، بشكل واضح، حيال قضية "انتخاب" مفتٍ جديد لسوريا، من جانب "المجلس الإسلامي السوري"، كما عبّرت عن ذلك، نقاشاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفيما ركزت بعض وسائل الإعلام على "الترحيب الواسع" بهذه الخطوة، عكست تعليقات نشطاء كُثر، أن شريحة ليست بالهينة من السوريين، في الضفة المعارضة للنظام، لها تحفظاتها على هذه الخطوة، وعلى شخص "المفتي"، والجهة التي "انتخبته".
وفيما يمكن الإقرار بصوابية نقاطٍ كثيرة استند إليها مؤيدو هذه الخطوة، لا يمكن في الوقت نفسه، تجاهل نقاطٍ كثيرة استعرضها المنتقدون. الأمر الذي يوضح مدى ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتق الشيخ أسامة الرفاعي، الذي قَبِل التصدي لهذه المهمة التي قد يكون لها ما بعدها، إن أحسن استثمارها لصالح عموم السوريين، أو قد تكون كسابقات لها في نشاطات المعارضة خلال السنوات العشر الماضية، دون أي معنى بأدنى الحدود، أو ذات آثار سلبية تنعكس على تطلعات السوريين بمجملهم، في أقصاها.
مبدئياً، قد نتفق مع من يقول بأن "المجلس الإسلامي السوري" أحسن اقتناص الفرصة التي أتاحها له النظام، حينما تخلى عن مقامٍ ذي رمزية كبيرة، فتصدى لملء هذا الفراغ، وأرجع مقام "المفتي" إلى أصحاب الشأن فيه، من علماء وفقهاء، بعد أن كان قد تحول بالمطلق، إلى منصب وظيفي يعيّن النظام القائم به، ويخضعه لسلطانه، بصورة وصلت إلى أقصى حدود الابتذال بعد العام 2011، الأمر الذي جعل المقام ذاته يفقد الكثير من رمزيته
ولأن لمقام "المفتي" بعداً هوياتياً، التصق به بصورة خاصة خلال عهد الانتداب الفرنسي وسنوات الاستقلال، وصولاً ربما حتى مطلع ثمانينات القرن الماضي، حينما كان السُنة –طوال تلك العقود- يرون أنفسهم، بوصفهم المكوّن الجامع لسوريا -وهي نظرة كانت تسود في أوساط غير السُنة أيضاً-، وكان المفتي أحد رموز ذلك المكوّن الذي يمثّل هوية سوريا –السُنية الجامعة-، لذلك، كانت خطوة النظام قفزة في الفراغ، كانت تتطلب من يملؤها، خاصة بعد أن زادت حساسيات السوريين الطائفية والعِرقية بفعل أحداث الثورة وقمع النظام والصراع الأهلي العنيف الذي تبعها
لكن لخطوة "المجلس الإسلامي السوري"، تلك، محاذيرها الخطرة أيضاً. إذ أنه، وقبل أن يتغول النظام السوري بصورة كبيرة على حساب الفضاء الديني في البلاد، كان المفتي يؤدي دوره بوصفه يمثّل هوية جامعة بالفعل، وليس هوية –مذهبية-، مما يعني أن على المفتي الجديد، الشيخ أسامة الرفاعي، أن يسير بحذر على الحِبال الدقيقة التي تمتد بين حساسيات السوريين من مختلف الأطياف، كي لا يتحول إلى "مفتٍ" للسُنة، وللمعارضين منهم فقط، وللشريحة المحافظة منهم بالتحديد، لا أكثر. حينها، ستتحول خطوة "المجلس الإسلامي السوري" تلك إلى خطيئة، إذ أنه سيؤكد بروباغندا النظام، بأن ثورة السوريين عام 2011، كانت "طائفية" الدافع، و"إسلامية" الهوى، و"إقصائية" الغاية.
تُتاح اليوم للشيخ أسامة الرفاعي فرصة ذهبية، كي يستغل سقطة النظام، بإلغاء منصب الإفتاء، كي يقدم بديلاً قادراً على أن يكون نقطة التقاء للسوريين، وعلى الأقل، وبالحدود الدنيا، أولئك الذين هم في الضفة المعارضة، بملايينهم التي قد تصل إلى الـ 10، بين سكان الشمال "المحرر"، وشمال شرق سوريا، وتركيا، وبلاد اللجوء والمهجر.
لكن على المقلب الآخر، للـ "المجلس الإسلامي السوري"، وللشيخ الرفاعي تحديداً، سابقاتٍ قد تدعو للتريث في الرهان على أن يكونوا نقطة التقاء وتجميع للسوريين المناوئين للنظام، والذين هم بأمس الحاجة لنخبة تقودهم أو تمثل بعض مصالحهم، بصورة مقبولة. من ذلك، خطبة الشيخ الرفاعي، في الصيف الماضي، في مدينة إعزاز، بريف حلب الشمالي، حينما شن هجوماً لاذعاً، ضد "النسوية" والعاملات في منظمات المجتمع المدني، وصولاً إلى توصيفهن بأنهن "مجندات من الدوائر الكبرى في الغرب لإفساد" النساء السوريات. وهو خطاب يحمل نفسَاً شعبوياً، وحِسّاً ذكورياً تحريضياً، ناهيك عن أنه منفرّ لدوائر الغرب ذاتها التي نتساءل لماذا لا تدعمنا في ثورتنا ضد الأسد، فيما نتناسى أن نخبنا التي يغلب عليها الطابع "الإسلامي"، تصدّر لهذا الغرب خطاباً معادياً، ومنفّراً.
ندرك بطبيعة الحال، أن لذلك الخطاب جمهوره في الشمال السوري "المحرر"، كما داخل المجتمع السوري في باقي المناطق. لكننا ننسى في خضم التماهي مع "الشارع"، أن مهمة النخب قيادته نحو الأفضل، لا مسايرته. وعند هذه النقطة، طرح بعض النشطاء قراءةً تستحق الوقوف عندها، هل يستطيع الشيخ الرفاعي و"المجلس الإسلامي السوري"، الذي انتخبه، قيادة السوريين، على الأقل، بالضفة المعارضة للنظام، بخطابهم المحافظ، ورؤيتهم "الدينية" التقليدية!
ما سبق، يطرح عبئاً ثقيلاً على كاهل الشيخ الرفاعي، و"المجلس الإسلامي السوري"، الذي عجز عن تحقيق أثرٍ فارقٍ في واقع حال السوريين بالشمال "المحرر"، حيث من المفترض أن يكون فضاء تأثيره كبيراً، رغم مضي 7 سنوات على تأسيسه. فما بالك بالتأثير المأمول في عموم السوريين!
لكن ذلك لا ينفي أن الفرصة ما تزال متاحة أمام هذه الهيئة الدينية، ومن يقودها، في أن ينقلوا دور علماء الدين المعارضين للأسد، إلى مستوىً أعلى، يقارع ذاك الذي كان عليه دور علماء الدين قبل ثمانينات القرن الماضي، حينما كانوا تحدياً عصيباً للسلطات الحاكمة في البلاد، وتعبيراً عن نبض جزء كبير من الشارع. وكي يتحقق ذلك، يجب أن تكون هناك نقلة نوعية في خطاب الشيخ الرفاعي ذاته، وفي خطاب "المجلس الإسلامي السوري" برمته، يوازي حجم الموقع الذي قرر احتلاله – "المفتي"- بوصفه موقعاً يُفترض به أن يكون جامعاً للسوريين، وليس ممثلاً لفئةٍ محدودةٍ منهم. بغير ذلك، فإن حدود تأثير "المفتي" الجديد، في أفضل الأحوال، قد تنحصر في قلّة من السوريين المهتمين بترصد فتاوى تتعلق بجوانب معاشية يومية، لا أكثر.