الطريق- إياد الجعفري
في الأسابيع القليلة الفائتة، أُسِيل الكثير من الحِبر في تحليل السيناريوهات والخيارات المتاحة أمام أكبر قوة كردية مهيمنة على المشهد بشمال شرق سوريا، ممثلةً بصورة رئيسية في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وسط تجدد الحديث عن مفاوضات مع النظام برعاية روسية، في ظل التلويح التركي بعملية عسكرية مرتقبة.
ومن بين جميع السيناريوهات والخيارات التي تناولها المحللون، يندر أن نجد من تطرق إلى خيار التفاهم مع "المجلس الوطني الكردي"، القوة الثانية الممثلة لكُرد سوريا، والتي تحظى بدعم من إقليم "كردستان العراق"، وتركيا، وتُعتبر شريكاً للمعارضة السورية عبر عضويتها في الائتلاف الوطني. كذلك يندر أن نجد من تطرق إلى خيار تعزيز الشراكة الكُردية – العربية في "شرق الفرات"، لتصبح أكثر تعبيراً عن مكونات المنطقة، بدلاً من حالة الهيمنة "الكُردية" التي تتسبّب بهشاشة المكوّن السياسي والإداري الذي يحكم المنطقة في مواجهة تحديات القوى الإقليمية المحيطة.
ويمكن فهم لماذا لا يتطرق معظم المحللين لهذين الخيارين، اللذين يمكن ضمهما في خيار واحد، يُختصر في تشكيل إدارة سياسية وعسكرية تمثّل جميع مكونات المنطقة، بصورة تجعلها أكثر قدرة على الحوار والتفاوض مع القوى الراغبة بالتهام وهضم "شرق الفرات"، وفي مقدمتها نظام الأسد، وروسيا وإيران.
إذ إنَّ تجربة أكثر من عامٍ ونصف من المفاوضات الشاقة المتقطعة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والمجلس الوطني الكردي، آلت إلى الفشل الذريع، في الربيع الفائت. ويمكن إرجاع ذلك لسببين رئيسيين: الأول، رغبة المكوّن المهيمن في المنطقة – حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي- بالحفاظ على هيمنته؛ لذا رفض القبول بإدخال قوة "البيشمركة" المسلحة التابعة للـ "المجلس الوطني الكردي" إلى "شرق الفرات" لتشارك في حماية أمن المنطقة، رغم أن عناصر هذه القوة هم من أبناء المنطقة من الكُرد أساساً. أمَّا السبب الثاني: فيتعلق بهيمنة حزب العمال الكردستاني على قرار حزب الاتحاد الديمقراطي. وفيما ينفي قادة الاتحاد تبعيتهم لقادة حزب العمال القابعين في جبال قنديل بشمال العراق، تتوالى المؤشرات التي تؤكد بأن مصالح الكُرد غير السوريين تتقدم على مصالح نظرائهم السوريين في سياسات المكوّن المهيمن بشمال شرق سوريا.
وقد تكون مفاوضات التفاهم مع النظام أكبر الدلالات على ذلك. فالعداء لتركيا، والعلاقات التاريخية المميزة مع إيران وروسيا ونظام الأسد، التي ميّزت معظم سياسات حزب العمال الكردستاني، طوال عقود، تشكّل الإطار لاندفاع بعض قيادات "الاتحاد الديمقراطي" نحو خيار التفاهم مع النظام السوري، برعاية روسية، رغم أنهم يعلمون مخاطرَ هذا الخيار، وتداعياته المرجّحة على المدى البعيد، والتي تتمثل في خسارة جميع مكتسباتهم كقوة ذاتية مستقلة في شمال شرق سوريا، خصوصاً أنَّ تجربة التسويات في درعا ما تزال ماثلة للأذهان، تلك التجربة التي تمَّت برعاية روسية، وبضوء أخضر أمريكي، وقد آلت في نهاية المطاف إلى خسارة شبه تامة، لكلِّ مظاهر الإدارة الذاتية للشؤون المحلية في تلك المحافظة، لصالح هيمنة نظام الأسد التي تحمل طابعاً انتقامياً.
ورغم ذلك، نجد أبرز قياديي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، آلدار خليل، يغازل نظام الأسد ويغريه بالنفط، قبل أيام. فيما يتمنَّع النظام ويستمتع بلعبة ابتزاز الكُرد في مواجهة عمل عسكري تركي وشيك.
وفيما تتحدث مصادر إعلامية عن انقسام في أوساط قيادة "قوات سوريا الديمقراطية – قسد"، التي يشكّل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، عمودها الفقري، حيال كيفية التعامل مع التهديد العسكري التركي، بين تيارٍ يميل للنظام وإيران وروسيا، وآخر يميل للأمريكيين ولا يفضّل الارتماء في حضن الأسد، توحي المؤشرات الأولية الراهنة –إنْ صحَّت معلومات تلك المصادر- بأنَّ الغلبة هي للتيار الأول، الذي يمثّل فعليَّاً مصالح قيادات جبال قنديل –حزب العمال الكردستاني- أكثر ممَّا يمثل مصالح الكُرد السوريين. فأين مصلحة مختلف مكونات "شرق الفرات" من كُرد وعرب وآشوريين، في العودة إلى إدارة نظام الحكم الأسدي، الذي اختبرته تلك المكونات على مدى أربعة عقود، عانت خلالها من التهميش وتدني مستويات التنمية والاضطهاد العِرقي؟!
ومثلما حدث في ربيع عام 2019، حينما تكثفت المفاوضات بين "الاتحاد الديمقراطي الكردي"، ونظام الأسد برعاية روسيَّة، بغية الوصول إلى تسويات بين الطرفين، وكانت في ظل مخاوف عند "الكُرد" من انسحاب أمريكي مفاجئ من سوريا في عهد إدارة دونالد ترامب، تتكرر التجربة اليوم. فحينما شعر "الاتحاد الديمقراطي الكردي" بأنّ الغطاء الأمريكي بات قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح لاغياً، كان خياره الأوحد، العودة إلى "حضن النظام"، مع رهانٍ على رعاية روسية قد تحميه من أشواك ذلك "الحضن".
ورغم أنَّ الهامش الزمني المتاح سابقاً، وبرعاية أمريكية، للتفاوض مع باقي مكونات المنطقة، من عرب وكُرد، لتكوين قوة سياسية وعسكرية متينة، كان مطوّلاً، إلا أن "الاتحاد الديمقراطي الكردي"، ماطل طوال أكثر من سنتين، ليجد نفسه مجدداً، قاب قوسين أو أدنى من خسارة الغطاء الأمريكي. فيما تريد واشنطن خروجاً لائقاً من سوريا يعفيها من تكرار المشهد الذي حدث في أفغانستان قبل بضعة أشهر، ويقيها من وصمة التخلي عن الحلفاء.
وبطبيعة الحال، قد يتجاوز "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي"، المحنة الحالية، عبر سيناريوهات من قبيل الابتعاد عن الحدود التركية لصالح نظام الأسد وروسيا، كما يُشاع، وينجو مؤقتاً من خسارة هيمنته على المنطقة. لكنَّ النهاية المحتملة بشدَّة لتجربة الحكم "الكُردي" في تلك المنطقة، ستكون بالاضمحلال لصالح نظام الأسد بضغط من القوى الإقليمية والدولية الفاعلة هناك، في نهاية المطاف.
ما سبق يخلص بنا إلى نتيجة مفادها: حينما تكون النخبة الحاكمة قد وصلت إلى السلطة وفق مبدأ الغلبة، نجدها في ظل التحديات الكبرى مستعدة للتضحية بمصالح من يجب أن تمثلهم، لصالح مصالحها أو تحالفاتها التي كانت قد ساعدتها في الوصول إلى ما هي عليه. حتى لو كان ذلك يعني، في معظم الأحيان، المخاطرة بالذهاب بعيداً إلى خيار "انتحاري"، بدلاً من تقديم بعض التنازلات لصالح الشركاء في الوطن، في خيارٍ أكثر أمناً وديمومة. هذا ما يذهب باتجاهه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بدفعٍ من قيادته "القنديلية"، على المدى البعيد. على غرار ما قام به نظام الأسد حينما قرَّر رهن البلاد برمتها لخيار الخراب والتدمير وسيطرة القوى الخارجية، فقط، كي لا يُقدّم تنازلات لشركائه في الوطن.