رأي

تونس.. في قلب العاصفة

الخميس, 5 أغسطس - 2021
بعد فشل معظم الحكومات تواجه الشعوب واقعاً لا مفر منه
بعد فشل معظم الحكومات تواجه الشعوب واقعاً لا مفر منه

الطريق- درويش خليفة


ما يُطبخ في الشرق الأوسط لا بدَّ أن تتذوقه وتأكل منه بلدان شمال أفريقيا، ولا سيما دول المغرب العربي التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات الشعبية، في أواخر عام 2010 بولاية سيدي بوزيد التونسية.

علماً أن الطبخة لم تنضج بعد في المنطقة الشرق أوسطية، لكن رائحتها عادت لتفوح مرة أخرى في تونس، الدولة التي تعتبر تجربتها في التغيير وإسقاط حكم الاستبداد، الأفضل خلال السنوات العشر الماضية من عمر الربيع العربي، بعد الإطاحة بالرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، في منتصف يناير من عام 2011.

التجاذبات السياسية في تونس لم تكن لتنتهي؛ بسبب وجود تيارين متعارضين أحدهما ديني والآخر حداثي، ومن هنا تغلبت حالة الاستقطاب الأيديولوجي على حساب برامج التنمية والإصلاح السياسي، بيد أن الشباب التونسي كانوا يقظين لهذه الحالة، التي من الممكن أن تأخذ البلاد إلى مكانٍ لا يحمد عقباه، لكنهم في نهاية الأمر وقعوا ضحايا انفصال القوى السياسية عن الواقع، فما كان أمامهم من خيارات سوى العودة إلى الشارع للتعبير عن استيائهم والمطالبة بإسقاط كل الطبقة السياسية، من أحزاب ومنظمات ومستقلين، الذين أوصلوا البلاد لحالة من الفقر والتضخم الاقتصادي وفقدان أي أمل بالإصلاح في ظل المناكفات البرلمانية التي لم يجدوا سبيلاً لحلها، حتى وصلت البلاد حافة الهاوية، فلا تنمية ولا استقرار في مطابخ هذه الدولة.

بعد أيام من الاحتجاجات المناهضة لحكومة هشام المشيشي، لم يجد الرئيس «قيس سعيّد» حلولاً أمامه سوى الوقوف إلى جانب المطالب الشعبية، لكن على "الطريقة العربية"؛ حيث أعلن عن تعليق عمل البرلمان لمدة شهر وإقالة رئيس الوزراء وتولي السلطة التنفيذية في البلاد. غير أن حزب النهضة أكبر الأحزاب في البرلمان، وصف ما حدث بـ "الانقلاب الدستوري".

بينما اعتبر أنصار الرئيس سعيّد، أنَّ هذه الخطوة ستكون حاسمة لإعادة الاستقرار والانتهاء من مسلسل التجاذبات الحزبية في مجلس نواب الشعب، والتي وصلت الحال فيه إلى طور صفع النائب المستقل الصحبي سمارة رئيسة حزب الدستوري الحر «عبير موسي» على وجهها، الأمر الذي أثار استياءً واسعاً من أداء الطبقة السياسية التونسية.

كانت التجربة التونسية فرصة سانحة للعرب لفتح البوابة نحو الديمقراطية ومواكبة الدول العصرية، دون تدخل خارجي أو انقلاب عسكري من شأنه الإطاحة بالتجربة وإنهاء المحاولة التي قد لا تتكرر، والمنطقة بوضع استثنائي في ظل التداخلات الدولية والتنافس الإقليمي من أطراف عديدة تحاول تمرير مشاريعها على حساب طموح الشعوب العربية بالانعتاق عن حُكم الاستبداد.

بعد فشل معظم الحكومات الاشتراكية في العالم العربي وعدم نضوج تجربة الإسلام السياسي، تواجه الشعوب واقعاً لا مفر منه، وهو؛ الخيار المجتمعي. ونظراً لأنَّ مجتمعاتنا محرومة من تداول السلطات بسبب الاستبداد، غالباً ما تراها تتوق لنظرية "يورغن هبرماس" "الديمقراطية التداولية"، لأنه يفسرها انطلاقاً من قواعد قانونية قبل أن تكون مؤسسة فلسفياً لقواعد أخلاقية.

مع العلم أنَّ فواعل الليبرالية والحداثة، نتعايش معها كمجتمعات في كل لحظة وحين، من خلال: توافر المعرفة، ووسائل الإعلام المستقل، ومجالات التعليم الحديثة، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن الأهم من كل ما سبق، هو النقاش العام، وإيجاد مشتركات ونقاط التقاء بين القوى السياسية والمجتمع، وعدم إغفال العدالة والمساواة، اللتين تشكلان روح العقد الاجتماعي والتعاقد السياسي.

التفريط بالتجربة الديمقراطية التونسية، يعني عودة الشعوب العربية، وخصوصاً تلك التي شهدت نضالاً ضدَّ حكومات الاستبداد وأصنام الأوتوقراطية الذين حكموا البلدان العربية لعقود من الزمن، إلى المربع الأول، وهو السجن الكبير الذي يسمَّى دولة ذات حدود جغرافية.