الطريق- يحيى السيد عمر
يتصل النظامان السياسي والاقتصادي ببعضهما اتصالاً عضوياً؛ إذ لا يمكن فصلهما عن بعضهم البعض؛ فكلٌّ منهما يؤثر ويتأثر بالآخر. ولهذا نجد أنّ الاستقرار السياسي ينعكس إيجاباً على الاستقرار الاقتصادي والعكس صحيح.
وهنا قد يكون السؤال الأبرز: ما أثر ضعف النظام السوري على الحياة الاقتصادية في سوريا؟ وهل استفاد السوريون اقتصادياً من ضعف النظام؟
كيف يتحرك النظام السوري بين القوة والضعف؟
حتى وقت قريب كان نظام الحكم في سوريا يعد من النظم السياسية القوية والمتماسكة. فمنذ عدة عقود بنى النظام أجهزة أمنية وجيشاً موالياً له ولاءً تاماً. وفي الوقت ذاته بسط النظام سيطرته التامة على كل الأنشطة في البلاد ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً؛ وذلك من خلال مركزية مفرطة معتمداً على قوته السياسية والأمنية.
في ظل هذا النظام السياسي القوي، استقرّ الاقتصاد السوري على المستويين الكلي والجزئي. والاستقرار هنا لا يقصد به الازدهار، بل المقصود به حماية الاقتصاد من التذبذبات الحادة. فالليرة السورية بقيت عدة عقود ثابتة القيمة، ومستوى الأجور هو الآخر ثابت ثباتاً نسبياً.
في ظل حكم الأسد الابن، عزّز النظام من قوته الأمنية والسياسية داخلياً وخارجياً، وسمح بحرية أوسع للنشاط الاقتصادي، وإن بقيت تحت رقابته المباشرة. وحقّق الاقتصاد السوري نقلات نوعية في العقد الذي سبق الثورة السورية، إلّا أنّه كان نمواً وازدهاراً انتقائياً فاستفادت منه شرائح محددة مع إهمال لشرائح واسعة، بشكل خاص في المدن الصغيرة والأرياف.
خلال السنوات الأولى للحرب في سوريا، حافَظ النظام السوري على تماسكه وبقي ممسكاً بمفاصل القوة في البلاد، ولم يتنازل عن مركزيته كونه رأى فيها درعَ حماية له، إلّا أنه بدءاً من عام 2017 بدأ بالتنازل التدريجي عن هذه المركزية؛ فمنح صلاحياتٍ واسعةً لبعض الجهات في البلاد خاصةً لأمراء الحرب.
ثمَّ بدأ النظام يخضع لعقوبات اقتصادية شديدة القسوة بعد عام 2017 ما تسبّب بعجزه عن القيام بالعمليات التجارية الخارجية؛ فاستعان برجال أعمال موالين له للقيام بهذه المبادلات التجارية. وهؤلاء، بعد اشتداد نفوذهم الاقتصادي، بدؤوا في فرض أجنداتهم على النظام، وباتت أوراق القوة في أيديهم نتيجة تنازل النظام عن مركزيته.
كيف انعكس الضعف السياسي للنظام على الاقتصاد السوري؟
إنّ ضعف النظام أدّى لظهور حكومة ظِل في سوريا هي الحاكم الفعلي للبلاد، بشكل خاص من الناحية الاقتصادية، فرجال الأعمال الذين استعان بهم النظام سابقاً لم يعد النظام نفسُه قادراً على السيطرة عليهم، وقد دعموا اقتصادهم الخاص بقوة عسكرية من الميليشيات؛ فباتوا من القوة بحيث يتعذر فرض أي قرارات عليهم.
في الواقع، يجب الاعتراف بأنّ النظام ليس في مصلحته الضغط الاقتصادي على السوريين في مناطق سيطرته، من جهةِ أنّه يسعى إلى التسويق لنفسه دولياً وإقليمياً بأنه يقود دولة متماسكة وأنه بالإمكان الاعتماد عليه وإعادة الاعتراف السياسي به. إلّا أنّ الأفعال على الأرض تتعارض مع هذا الطرح، والسبب هو أفعال رجال أعماله الذين تمرّدوا عليه.
ضعف النظام أدّى إلى انتشار الإتاوات بشكل فاضح في مناطق سيطرته، وغالبيتها مفروضة مِن قِبَل أمراء الحرب. هذه الإتاوات تُدفع من جيوب السوريين، وبالتأكيد فإن المستفيد منها ليس النظام بل الميليشيات.
إنّ المتتبع لواقع أسعار المواد الغذائية في مناطق سيطرة النظام لا سيما المستوردة منها، يلاحظ أنها أعلى من مستوى الأسعار العالمية، مع العلم أنَّ هذه المواد معفاة من العقوبات الدولية. ولكن سبب ارتفاع سعرها يتمثل بالضرائب التي تفرضها الميليشيات وأثرياء الحرب على أي شيء في البلاد.
إنّ الضعف المستمر للنظام أدّى لتحكم أمراء الحرب بمفاصل الاقتصاد السوري، وهو ما انعكس على ازدياد مؤشرات الفقر والبطالة في البلاد. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الواقع ليس بالسهولة معالجته؛ فحتى على مستوى حلفاء النظام في الخارج يبدو أنهم غير مكترثين بهذا الواقع.
يعوِّل البعض على قدرة روسيا على لَجْم جشع أمراء الحرب في سوريا، خاصةً أنّ أفعالهم قد تقود في النهاية إلى ضرر النظام وحتى إسقاطه مِن قِبل أنصاره، وهو ما لا ترغب به روسيا، إلا أنّه حتى الآن لم تتخذ روسيا أو إيران أي تصرّف بهذا الشأن.
في الواقع قد لا تتدخل روسيا للحد من جشع أمراء الحرب في سوريا؛ كونها ترى أن الوضع لم يصل لمرحلة التهديد الحقيقي للنظام، وهنا يمكن ملاحظة أنه لا مانع من التضحية بأحد رجال الأعمال الموالين للنظام كلَّ فترة؛ للإيهام بأنه يقوم بلجم الجشع الاقتصادي لأمراء الحرب. وهذا الأمر لا يمكن للنظام القيام به دون دعم مباشر من روسيا.
من المؤكد أنّ الوضع الاقتصادي للسوريين لن يتحسن في المدى المنظور؛ فالوضع الاقتصادي مرهون وبشكل مباشر بالوضع السياسي. وعلى ما يبدو فإنّ حلاً شاملاً للقضية السورية ما يزال أمراً بعيد المنال، خاصةً أنه لا يوجد توافق دولي ولا إقليمي على شكل هذا الحل.