الطريق- محمد ياسين نجار
ينقسم العالم في نظره وتقييمه لأهمية الرياضة بشكلٍ عام وكرة القدم بشكلٍ خاص، لكن في الحقيقة أصبحت كرة القدم قضية مؤثرة على الصعيد الإنساني، بل تساهم في الاقتصاد العالمي بشكل مباشر ولها مؤسساتها فوق الوطنية، وهنا نقصد الفيفا التي تتدخل في مدى ديمقراطية انتخابات الاتحادات الوطنية. ويتذكر البعض كيف حرمت الكويت من المشاركة في البطولات ومنعت إقامة المباريات في بعض الدول لأسباب متنوعة.
تابع مئات الملايين من العالم مباراة إيطاليا وإنكلترا، وانقسم العالم بين مؤيد لهذا الفريق أو ذاك، ولكلٍّ دوافعه وأسبابه. البعض تعاطف مع إنكلترا بسبب قوة بطولة الدوري لديها والتي تميزت في السنين الأخيرة وازدادت حيويتها، واعتقد آخرون بأحقيتها بالفوز؛ لأنَّ المباراة تقام على ملعب "ويمبلي" الشهير وبين جمهورها، بينما البعض يعتبر أنها تستحق البطولة بعد حرمان من نيل أية بطولة منذ خمسةٍ وخمسين عاماً، وعدم نيلها أية بطولة أوروبية رغم أنها منبع كرة القدم في العالم.
إذا انتقلنا إلى الطرف الآخر المتعاطف مع الفريق الإيطالي، فسنجد أنَّ المتعاطفين مع إيطاليا يرون أنها أصيبت بنكسة كبيرة في عدم الوصول إلى بطولة كأس العالم الأخيرة التي أقيمت في روسيا عام 2018 وهي التي فازت بأربع بطولات، وتأتي بالمرتبة الثانية بعد البرازيل متساوية مع ألمانيا، وهي كذلك لم تنل إلا بطولة وحيدة على الصعيد الأوروبي عام 1968 وقدمت خلال البطولة الحالية أداءً جيداً، ووصلت إلى النهائي بنتائج غير مسبوقة في عدم خسارتها 33 مباراة متتالية.
حققت إيطاليا في الختام البطولة الأوروبية، والتي تعتبر الثانية من حيث الأهمية على صعيد كرة القدم، لكن إذا ما أردنا البحث عن أسباب الفوز وتتويج هذه النتائج بالبطولة وأيضاً تقديمها مستوى يختلف من حيث الأسلوب والطريقة الدفاعية المعهودة عن الطليان، نرى أنَّه الدور الكبير للمدرب "مانشيني" الذي عمل ثورة على صعيد الفريق الإيطالي، ولعلَّ السؤال الذي يتبادر للكثير من المتابعين: كيف استطاع تحقيق ذلك؟
أولاً – الانتماء إلى المجال الرياضي منذ الصغر: حيث لعب في أندية الدرجة الأولى الإيطالية، وهو في عمر 17 عاماً، ولعب في حياته لأربعة أندية، وللمنتخب الإيطالي لمدة عشرة أعوام، واعتزل وهو ابن 37 عاماً.
ثانياً – الخبرة والتدرج: عمل في قطاع التدريب منذ عام 2001 كمساعد مدرب، ومن ثمَّ أصبح مدرباً لأندية مهمَّة في إيطاليا وإنكلترا وتركيا وأوكرانيا، وأحرز بطولة الدوري الإنكليزي لنادي مانشستر سيتي بعد انقطاع 45 عاماً، ليتوج تلك الخبرة بتدريب المنتخب الإيطالي وإحراز بطولة أوروبا.
ثالثاً – الموهبة القيادية: استلم مانشيني تدريب منتخب إيطاليا بعد خروج نادر من تصفيات كأس العالم الأخيرة؛ ممَّا أدى إلى رحيل المدرب السابق ورئيس اتحاد الكرة.
قام مانشيني ببناء فريق متجدد، بثَّ فيه الروح والإصرار والتصميم، وهنا يبرز دور القائد في عملية الانتقال من القاع إلى القمة ضمن فترة قصيرة نسبياً.
رابعاً – الخطة: قام مانشيني بتغيير الخطة التقليدية لمنتخب الآزوري المعروفة باسم الكاتناتشيو، والتي تعتمد على الانكماش ضمن المنطقة الدفاعية مع الاعتماد على المرتدات السريعة عند اندفاع الخصم، وانتقل بالفريق إلى خطة عمادها الاستحواذ والتحكم في إيقاع اللعب لأطول وقت ممكن يتم من خلاله فرض إيقاعهم على المباراة، مع خط هجوم ماهر يستغل الفرص وارتباك الخصم..
خامساً – المزج بين الشباب والمخضرمين: اختار فريقاً مزج خلاله بين جيلين؛ شاب ومخضرم بمعدل عمر قرابة 27 عاماً، أغلب اللاعبين أيضاً كانوا يلعبون في الدوري الإيطالي باستثناء ثلاثة لاعبين؛ اثنان من تشلسي والآخر في باريس سان جيرمان من 26 لاعباً، وهذا عامل مهم في انسجام الفريق.
كان لافتاً أيضاً اختيار حارس المرمى "دي روما" ذي الـ 22 عاماً كأفضل لاعب في البطولة؛ لدوره الرئيس في نيل البطولة، وكذلك صاحب هدف البطولة "بونوتشي" ذي الـ 34 عاماً، وهو أكبر لاعب في تاريخ أوروبا يحرز هدفاً في النهائي، وهذا أكبر مؤشر على عملية المزج بين جيلين.
سادساً – فريق مساعد منسجم وكفوء: إحدى النقاط المهمة في منتخب إيطاليا، هي أنَّه فريق مساعد منسجم ومتجانس ذو خبرة، تحت قيادة مانشيني.
ممَّا سبق، يتبين لنا أنَّ نجاح الفريق الإيطالي بنيل بطولة أوروبا سبقته أعمال تحضيرية عمادها قيادة كفوءة، وخبرات مساعدة ومنسجمة، وخطة استراتيجية أدت إلى هذا النجاح وتجاوز المرحلة الصعبة.
السؤال المطروح: هل يمكن محاكاة ذلك في مجال السياسة، خاصة على صعيد الملف السوري ؟
إنّ النقاط الست التي اتبعها مانشيني على صعيد تحقيق النجاح ضرورية لتحقيق أي نجاح مؤسساتي وفي أي مجال؛ فالانتماء للعمل السياسي منذ فترة الشباب تجعل ممارسة السياسة فطرية وبدون تكلف، مع خبرة تراكمية، وهي عوامل مهمَّة للعمل ضمن المجال، فلا يعقل أن نشاهد شخصاً يمارس السياسة دون أن تكون له أية ميول إليها أو معرفة سابقة بها. إنّ الممارسة المبكرة تؤدي إلى فرز شخصيات قيادية تمتلك كاريزما ومعلومات وخبرات اكتسبتها عبر السنين، تجعل قضية وجودها واستلامها أيَّ موقعٍ قيادي قضية لا تكلف فيها، وتكون جاهزة لوضع الخطط والسيناريوهات واختيار الفريق المساعد المنسجم، مع معرفتها بأهمية وجود الشباب والنساء وأصحاب الخبرة ضمن الفريق؛ ممَّا يعني أنَّ هناك مزجاً بين الحيوية وأصحاب التجارب ضمن فريق العمل، ومن ثمَّ يكون الحصول على النجاح أكثر ترجيحاً من حصول الفشل.
إنّ الإشكالية المزمنة في الثورة السورية أنَّها تعلم مدى أهمية النقاط الست، لكن واقع الثورة السورية يتمثل بالمسرحية العالمية بانتظار غودو لصمويل بيكيت؛ أي الانتظار العبثي بدون أي خطة منهجية لوصول قيادة تشابه مانشيني؛ فمازلنا ننتظر "غودو" مع كل حدث وأنه يمكن أن يصل فجأة هابطاً من السماء ليحل مشاكلنا، دون اتخاذ أية خطوات عملية تعيد إلى الرؤية الوطنية دورها الريادي بعد انتكاسات مستمرة، من خلال علاقات دولية متوازنة، تفعل خلاله الدور العربي المناصر لسورية، دولة ذات سيادة تساهم في تطوير الواقع العربي المتراجع، بعيداً عن الهواجس التي يمتلكها البعض نتيجة بعض الممارسات الانتهازية لبعض من تبوَّأ مراكز القيادة في الثورة، فشرق المتوسط أصبح بحاجة ماسة لإعادة تفعيل الدور السوري العربي العقلاني المتواصل مع المحيط الإقليمي، بدون وصاية لأحد، ممَّا يعيد التوازن للمنطقة، كما كان دور سورية عبر التاريخ صمام أمان ومنطقة للتواصل الحضاري.