منوع

ثقافة

التوظيف الفني للمكان عند ابتسام تريسي..رواية (مدن اليمام) نموذجاً

الثلاثاء, 12 أكتوبر - 2021

الطريق- عبدالحافظ كلش


وأنت تقرأ رواية (مدن اليمام) للكاتبة السورية ابتسام تريسي، قد لا تستطيع التركيز على تقنيات السرد الروائي مثلما ستركِّز على سير الأحداث المؤلمة في سوريا.

أحداث يندمج فيها الواقع بالخيال، بل إنَّ الخيالَ فيها هو الواقع.

ولأنَّ كلَّ قارئٍ يرى النصَّ الأدبي من زاويةٍ معينة تؤثر به لسببٍ ما هو نفسه يجهله؛ أردتُ أن أبتعد عن القراءة التعريفية السطحية المُجحِفة للرواية، مركزاً على تقنيات توظيف بعض الأمكنة التي شهدت الصراع والجروح الــ"مازالت" تنزّ.

هو صراعٌ بين المكان (المُتّكَأ عليه من قبل الحراك الثوري)

واللامكان (الذي يمثله ويستند عليه نظام الديكتاتور).

في رواية مدن اليمام، لم تتعامل ابتسام تريسي مع المكان على أنه موضعٌ ساكنٌ جامدٌ لاحياة فيه، كذلك لم تشِر إلى الأمكنة إشارة خاطفة لا تراعي الخصوصية في شخوصها، بل حرصت على التعامل مع المكان بنوعيه (المغلق والمنفتح) وأجادت في توثيق الصراع والتداخل بينهما، دون أن تكون حيادية في ذلك؛ لأنَّ الحيادية تجاه حراك الثورة السورية تعني أن تكون في صف اللون الرمادي القاتل بحياده، اللون الذي تكرهه الكاتبة مثلما يكرهه المخرج السينمائي نورس (فراس فياض المعتقل)؛ ذاك اللون الكئيب الطاغي الدال على المكان المغلق/ السجن، ولباس المحقق، والحقد والإلغاء.

لم تتقصَّد الكاتبةُ ابتسام تريسي في توظيفها الفني للأمكنة إمتاعَ القارئ وإدهاشه كما فعل إبراهيم الكوني بتوظيفه للأماكن في عالمه الروائي اليوتوبي المُتخيَّل ــ بقدر ما كانت الغاية تأريخ ما حدث في جغرافيَّة المدن الثائرة. 

المدن/الأماكن في الرواية، حقيقيَّة ولا تنتمي إلى الجغرافيَّة الخياليَّة.

في مدن اليمام، تكون الأمكنة المنفتحة على الطبيعة والحياة والتجدُّد وقبول الآخر، متمثلة بـ: (أريحا، جسر الشغور، إدلب، حماة، حمص، حلب، دمشق..) في مواجهة الأمكنة المغلقة إغلاقاً محكماً بالموت واللون الرمادي (عقلية البيئة الحاضنة للنظام السوري، القبر المعتم الذي يخاف منه الدرويش محمود، عقلية الطائر اللص المسمَّى بالفرقاطة، معمل السُّكر في جسر الشغور الذي حوَّلته كتائب الذبح والتعذيب إلى نقطة عسكرية، غرف التحقيق، القبو، الزنزانة، السفارة الإيرانية، السفارة الروسية، الفرقة الرابعة، الملعب البلدي، والفروع الأمنية التي لا حصر لها..).

في الزنزانة/المكان المغلق، استطاعت الكاتبة أن تنقل للقارئ ذاك الإحساسَ المرهِق بضيق المكان المخنوق المُتخَم بالسجناء السوريين، حتى يصابَ القارئ نفسُه بـ "الكلوستروفوبيا" أو فوبيا الأماكن المغلقة أو الخوف من الازدحام.

لكنَّ الخوف هنا ليس من البقاء في مصعدٍ انقطعت عنه الكهرباء فجأةً، وليس رهاباً من غرفةٍ بلا نوافذ يبتكرها الكاتب في لعبةٍ فنية؛ بل هو خوفٌ حقيقي من اللاجدوى في مكانٍ مغلق تحت الأرض مع وجبات تعذيب وإذلال يومي يتعرض له المعتقلون الذين نادوا بالحرية؛ حيث البرد والجوع متواطِئان مع الجلادِ نفسِه، وربَّما الخيبة أيضاً.

الأمكنة المغلقة تتكاثر بتكاثر الأفرع الأمنية المولّدة لها بطبيعة الحال، وتتشابه فيما بينها باللون الرمادي والقذارة، لكنها تختلف عن بعضها البعض في تقنيات التعذيب.

ذاك ما أشار إليه [حنظلة] الذي تمَّ اعتقاله ونقله من فرع الخطيب إلى المخابرات الجوية ثمَّ إلى الفرقة الرابعة. 

[حنظلة] هو الرمز الفني الذي ابتكره الرسام الفلسطيني ناجي العلي، وقد اتكأت عليه الكاتبة ابتسام تريسي في توثيق الأحداث والمجازر في سوريا، كونه رمزاً أشبه بالطيف المُلهِم الذي لا تنطفِئ روحه، وهو المساند للأحرار والشاهد الحاضر بوعيه دائماً في فلسطين ومصر، وفي سوريا:

"في مهجعٍ تحت الأرض وجدتُ نفسي بين مِئة معتقل حُشِروا في غرفةٍ على شكل حرف (ل) لا يتجاوز طولها عشرة أمتار وعرضها خمسة. فيها حمَّام وهذا بصراحة أفرحني! فقد كان علينا أن نخلعَ ملابسَنا في المخابرات الجوية، ونقطع الساحة عراةً في البرد كي نصل التواليت، وأجسادنا تحت رحمة السياط والبرد القاتل..دقيقة واحدة تُمنَح لكلِّ معتقل كي يفرغ أمعاءَه، ويخرج تحت رحمة سياط السجّان.." [مدن اليمام، ص283-284]

لكن بالمقابل، لم تبقَ كلُّ الأماكن المفتوحة على جمالها وسحرها وطاقتها الأصيلة، خصوصاً بعد أن أصبح الفضاء المحيط بها مليئاً برائحة الترقّب والخوف؛ فالأماكن المنفتحة أصبحت مخيفة بعد أن اجتاحها اللون الرمادي المسيطر على الزنازين: " هل حقَّاً هذي دمشق؟" [مدن اليمام، ص20]

كذلك في موضع آخر تقول شخصية أم نور في لحظة تأمُّل بالمكان المفتوح على الطبيعة في جسر الشغور:

" منذ سنوات لم يمر حزيران لطيفاً، وكأنَّ مساءاته امتدادٌ لربيعٍ لم ينتهِ بعد. لكنَّ الخَوَاءَ المسيطر على البيت والجبال من حولي جعلني أحسُّ بحجم الفجيعة التي تتكرَّرُ بلا توقف. تمشيتُ في الحديقة الذابلة الزهور. لمستُ بأصابع الحنين سورها.." [مدن اليمام، ص72]

وللمفارقة، قد تصبح الأماكن المفتوحة المخمَّرة بالذاكرة الفجائعية مدناً قاتلة بالنسبة لذوي الطبيعة الضَّبعية، القادمين من مكانٍ/عقليةٍ مُغلقة متخشِّبة، وهم الذين يحفظون أقوال جدّاتهم منذ الصغر" إنَّ السير عكس اتجاه الريح شؤم" [مدن اليمام، ص33]

فـ"لماذا كان حظهم أن يسيروا عكس اتجاه النهر؟" مجرى نهر العاصي المخالف والمتمرِّد على اتجاه أنهار المنطقة.

لكنَّ المكان المغلق [الداكونة] في بيت الأهل، المتحكَّم بفتحه من قبل الأهل أنفسِهم، يختلف كثيراً عن تلك الأماكن المغلقة التي يتحكم بفتحها الديكتاتور بمراسيمه المزاجية:" حين أعود أختبئ بالداكونة تحت الدرج. ليس خوفاً من العقاب، فقد كنتُ أدرك تماماً أنَّ جدتي تعمل بقول جدي: (عصاية العِز؛ هِزها ولا تضرب فيها). آه لو أستطيع الآن أن أكوِّر جسدي هناك قربَ برميل المازوت، وأحذية عمتي ذات الكعب الرفيع، ورائحة الرطوبة والأمان!.." [مدن اليمام، ص254].

أمَّا المخرج السينمائي نورس، وهو صاحب الشخصية الحقيقية (فراس فياض) الذي اعتقله النظام السوري في المطار بعد أن أخرج فيلماً عن الدكتاتور وفيلماً عن آخر الرجال في حلب، فقد كانت ردة فعله وتساؤلاته مختلفة عن ردّة فعل الآخرين ضمن طغيان اللون الرمادي في المكان المغلق/ الزنزانة/الأمانات:

" أيُّ قدرة عجيبة تملكها جدران الزنازين على حمل بصمات الأرواح؟ كم أرَّخت لحيوات وعذابات ونهايات مفجعة! ربّما يكون القاسم المشترك لكلِّ المعتقلين الذين مروا بهذه الزنزانة وغيرها من زنازين سوريا أنهم يبحثون عن حياةٍ أفضل في ظل حرية حُرِموا منها لمدَّة خمسة عقود مضت!...شيءٌ جعله يبتسم في هذه الزنزانة؛ أنَّ أحد المعتقلين لم يكتب شيئاً يعرّف به عن نفسه، فقط كرَّر كتابة أيام الأسبوع مئات المرّات، وآخر اكتفى بوضع نقاطٍ بجانبها! " [مدن اليمام، ص201].

أيضاً، ثمَّة ما يحفِّز الكاتبة (أم نور المعتقل) على الانتقال من مكان إلى مكان، سواء أكان انتقالاً مادياً أو انتقالاً بالذاكرة إلى الوراء، وسيشعر القارئ بسطوة المكان وقوة الانتماء إليه عند الكاتبة، وإلى تلك الحميمية في البيت الكبير للعائلة في جسر الشغور، حيث موضع ذكريات الطفولة؛ بالتحديد عندما ذهبت أم نور إلى بيت أهلها في جسر الشغور:

" نفضتُ الغبار عن أرجوحة الطفولة التي لم تبارح مكانها منذ أربعين عاماً مضت. أكادُ أرى الوجوهَ كلَّها التي اتكأت على حبالها المتينة..ألمس الضحكات بأصابعي..الكلمات التي احتفظ بها الأثير، وراحت تتحرّك حولي كائنات تمتلك الحياة، كلَّ الحياة!...ها هي الأرجوحة تتحرّك، وتلتفُّ حبالها حول نفسها..ثمّ تنفك تدرجياً لتهدأ تماماً وأنا أمضي إلى الباب! تأمَّلتُ طلاءَه المتآكل طويلاً، خربشات منمنمة تركتها أقلامُ الصِّغار الذين كبروا ورحلوا! " [مدن اليمام، ص72]

قوَّة الوصف المعبِّر عن قوة الانتماء تتكرَّر لَحْظَتئِذ كتبت (أم نور) عن عودتها إلى أريحا، إلى بيتها الذي يحمل دلالة الاطمئنان اللامتناهي. الكاتبة/أم نور استخدمت ذاكرةً يقظة تحيط بالتفاصيل الدقيقة وهي في طريقها إلى البيت/المكان:

" عدتُ إلى أريحا بداية كانون. الأزقة الباردة دفعت خطواتي إلى الإسراع متجاوزة كلَّ آلام العظام والظهر...لم يكن مهمَّاً أن أرى الدَّربَ جيداً...قدماي تحفظان شكلَ البلاط النافر الأملس، وتعرفان في أي زاوية انخفض، وعلى أيّ بعدٍ نتأت إحدى البلاطات، شكل الحفر العتيقة، الانخفاض والارتفاع في الطريق! كل ذلك لا أحتاج رؤيته" [مدن اليمام، ص188].

ثم تنتقل بالسرد البطيء المتعمَّد، إلى وصف التفاصيل المتناهية في الصغر لحظة وقوفها أمام بيتهم/المكان المهجور:

" صرّ الباب الحديدي الصدِئ بأنينٍ مكتوم منعه البلل الشتائي من الوصول إلى أسماع الجيران عبر الزقاق..دخلتُ بحذر، أرضية فسحة الدار الزلقة وسط العتمة أعادت إليَّ الخوف الطفولي من الانزلاق واستقبال الأرض المتجمِّدة بذراعين ضعيفتين وعظام هشة...صقيعٌ وعتمة ووحدة..أين أطياف من رحلوا؟ لماذا لايدفئون الغرفة بضحكاتهم وأحاديثهم الحميمة وحكاياتهم؟" [مدن اليمام، ص189]

-----

*وبعد، فإنَّ رواية مدن اليمام للكاتبة ابتسام تريسي تحتاج أكثر من قراءة، ومن زوايا متعددة؛ كونها توثق جزءاً مهمَّاً من ذاكرة انطلاق الثورة السورية، وكونها لم تتلاعب بالأحداث لخلق رواية "متفقة مع القواعد التي تسمَّى فنية" كما قال غسان كنفاني في مقدِّمة إحدى قصصه (البطل في الزنزانة). 

لقد جاءت (مدن اليمام) انتصاراً للقضية التي من أجلها يعاني البطل.     

 

 

الوسوم :